تالق بنقاط قوتك
د نسيم الصمادي.
قصة من الماضي لقراءة الحاضر والمستقبل
من ذكرياتي أيام الطفولة، أي منذ أكثر من نصف قرن، أننا كنا نعيش في قرية جبلية نائية وبعيدة عن مظاهر الحياة الحديثة، ومع أول هطول للأمطار في مطلع الشتاء كان الرجال يخرجون لصيد الأرانب وحيوان بَرَّي آخر نسميه "العُكَّس". لم نكن ندرك سبب اختيار هذا التوقيت، حتى واتتني الجرأة يوماً وسألت أحد أشهر الصيادين وهو عمي "حمدان"، عن سر الخروج بعد هطول المطر. عرفت يومها أن الأرانب والعَكَاكِس تخرج من أوكارها بعد امتلائها بالمطر.
في سن المراهقة بدأنا نخرج في محاولات للصيد، ونهيمُ في الجبال جماعاتٍ وأفراداً، ولاحظتُ أن الأرانب تحديداً تقف دائماً على أعلى صخرة يمكنها تسلُّقها وتنفض شعرها ليجف. وبسبب سمعها المُرهف وعدم تذرُّعنا بالصبر لم نكن نحسن صيدها كما يفعل العم حمدان ورفاقُه المحترفون. وبقي سر ارتقاء الأرانب أعالي الصخور سراً غامضاً حتى قرأت عام 2005 كتاب "تألَّق بنقاط قوتك" للدكتور "دونالد كليفتون" رائد نظرية القيادة بنقاط القوة. روى كليفتون قصة الأرنب الذي أرسلوه إلى المدرسة، فأصرَّ مدرِّسوه على تعليمه السباحة لأنه سريع في الجري وضعيف في الألعاب المائية. وكأحد رواد مدرسة علم النفس الإيجابي، كان كليفتون وزميله مارتن سليجمان أول من طالبا بأهمية وأسبقية تمتين نقاط القوة، بدلاً من تقوية نقاط الضعف. فهمت من تلك القصة أن الأرانب تكره الماء، وأنها خُلِقت لتركضَ وتقفز فقط، وأن شعرَها يلتصقٌ بجلدها فتعاني الأمرين من البلل.
ومرة أخرى عاودني التفكير بالمشكلات التي ستعانيها الأرانب كلما أطلَّ الشتاء، في عالم يلوِّثه الطين ومجتمعات تعوم في المياه الراكدة، وقبل أيام وصلتني رسالة نصية خصَّني بها الصديق أحمد خليل من الإسكندرية. وفيها أعاد تفسير قصة الأرنب والسلحفاة التي حفظناها وكرَّرناها وكنا نظن أنها لا تعني أكثر من مثابرة أمة السلاحف وتخاذل أمة الأرانب.
خلاصة القول أن قصص الأرانب والضعفاء، وما تحويه من دروس وعبر، جعلتني أُعيد التفكير في كاريكاتير عالمي ومقولة منسوبة إلى "آينشتاين" تقول: "كل إنسان عبقري، ولكن إذا قيَّمت أداء السمكة بقدرتها على تسلق شجرة، فسوف تعيش طوال حياتها وهي تؤمن بغبائها". الكاريكاتير الشهير يعرضُ صورة مدير يُجري مقابلة توظيف لـ: عصفور وقرد وبطريق وفيل وسمكة وكلب، ويقول: "لنكون عادلين فسيخضع الجميع لنفس الاختبار؛ على كلٍّ منكم أن يتسلَّق هذه الشجرة".
من البديهي أن يفوز العصفور طبعاً، يليه القرد، ثم الكلب، وربما البطريق، وأن يُحجِم الفيل والسمكة عن خوض السباق. هكذا يقول المنطق وفقاً لمعرفتنا وتوقعاتنا ونظرتنا المسبقة والمتشابهة إلى الأمور، ولأننا في زمن العلم الذي يُلغي البديهيات، والبحث الذي يؤكد أو ينفي الافتراضات، ولأن المستحيل هو الحاجز الذي نبنيه أمام عقولنا وخيالنا، أردت أن أتأكد من أن السمكة ستحتل المركز الأخير في هذا السباق، كما افترض آينشتاين في قديم الزمان، إن كان آينشتاين فعلاً هو صاحب تلك المقولة.
بعد بحثٍ لم يَطُل، وجدت مقالاً منشوراً في منصة علمية بعنوان: "ثلاثة أنواع من الأسماك تستطيع تسلق الأشجار". الأنواع الثلاثة هي: مانجروف كيليفش، وكلايمبنج جورامي، وكلايمبنج كاتفش. الأنواع الثلاثة تعيش في المياه العذبة حيث تعيش الأشجار، لأن الكائن الحي هو ابن بيئته وتنشئته وتربيته وعاداته. المثير في هذا الاكتشاف أن بعض تلك الأسماك لا تتسلَّق الأشجار فقط، بل وتسكن بين أغصانها لأيام وأسابيع بعد أن تكيَّفت وتشكَّلت خياشيمُها لتأتيها بالأكسجين.
كالأرانب لا كالحيتان؛ نربي أولادنا وأحفادنا، ونعلِّم طلابنا ونُعَيِّن وندَرِّب موظفينا. إذا اكتشفت أن أبناءك أرانب، فأنت من علَّمهم النوم في منتصف الطريق، والبحث عن الدفء والراحة كلما هبَّت العواصف. لم تعلِّمهم أن يثابروا كالسلاحف، أو يتنفسوا مثل سمك المانجروف، وأن يُحلِّقوا كالعصافير، ويقفزوا مثل القرود، ويمدوا خراطيمَهم إلى أبعد مدى.
في سباق تسلق الشجرة، وفي كل سباق تأكَّدنا أن الفيل سيفوز دائماً، وذلك استناداً إلى الأنظمة الداخلية والخارجية، ولوائح الاختيار والتعيين. فسواء طبَّقنا الحوكمة، أو استبدلنا شريعة الغاب بتشريعات الأمم المتحدة، فقليلاً ما تفوز المواهب والقوى الذكية. من المفروض وليس من الممكن أن يكون الفوز من نصيب من يمد خرطومه طويلاً، ويقتلع الشجرة، فتطير العصافير وتسقطُ الزواحف، ليجلس فيل ضخم على أكبر كرسي فوق الشجرة. على قمة كل هرم تنظيمي ومنظمة عامة وخاصة، يتربَّع فيل كبير. وحتى في العصر الرقمي والعالم الافتراضي، يتشكَّل الفيل تدريجياً، ثم يكبر بسرعة، فنحترمه ونبجِّله ونسميه: "البيانات الكبرى".
تعليقات
إرسال تعليق