العلاقة بين الفلسفة والطب عند المسلمين -- دكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
العلاقة بين الفلسفة والطب عند المسلمين -- دكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
(1) يقول سير وليام أوسلر في كتابه "تطور الطب الحديث" إنه قدر لأعمال ابن سينا أن تظل "انجيلا طبيا (في أوروبا) لمدة أطول من أي عمل آخر" (1). والواقع أن كتابه "القانون " ظل يدرس في بعض جامعات أوروبا إلى القرن السابع عشر الميلادي. وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل على أهمية ما أسهم به ابن سينا في ميدان العلوم الطبية في العالمين الإسلامي والغربي. وليس ابن سينا إلا واحدا من أشهر أطباء الإسلام الذين كانت لهم مشاركة علمية وعملية في تقدم علم الطب عند المسلمين. وهذا التقدم يعود في رأينا إلى عاملين رئيسيين هما: الإسلام ذاته الذقي يؤكد على أهمية الطب، ويفتح الباب أمام البحث في الأمراض وطرق الوقاية منها، وعلاجها، والاستفادة من تراث الأمم السابقة في الفلسفة والطب وسائر العلوم كسياسة للدرلة الإسلامية، خصوصا في العصر العباسي، وليست كعمل فردي، وقد أدت هذه السياسة إلى نقل التراث الفلسفي اليوناني بما فيه الطب، فأفاد منه المسلمون وطوروه وأضافوا إليه جديدا. وسنحاول فيما يلي أن نتحدث عن هذين العاملين بشيء من التفصيل.
أولا: موقف الاسلام من الطب:
!ول لصا نلاحظه أن الإسلام قد حث المسلمين على التداوي، وهو مأمور به شرعا. ويستند علماء الإسلام في ذلك إلى أحاديث نبويه مثل قوله صلي الله عليه وسلم: "يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء". وكان النبي يأمر أصحابه بعرض أنفسهم علي الحارث بن كلدة، وكان طبيب العرب والعجم. وروى كذلك أن عمر بن الخطاب قال: أرسلوا إلى الطبيب ينظر جرحى فأرسلوا إليه (2)، ومعنى التداوي استعمال الدواء. (3)
وقلإحظ بعد هذا أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يسمح للنساء بالتطبيب، وخدمة الجرحى (التمريض) وقد جعل صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ في خيمة لأمرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوى الجرحى، وكذلك كانت أخت لها تسمى كعبة بنت سعيد الأسلمية تعالج الجرحى.
وقد دار بحث دقيق بين علماء الإسلام حول الطب من حيث موافقته أو معارضته لقضاء الله، وقد ذهب أطباء الإسلام إلى القول بأنه لا يعارض قضاء الله، كما أكدوا على أن الإسلام نفسه يدعو إلى الإيمان بالأسباب والمسببات، ومن ينكر الأسباب فهو كافر، فيقول الأزرقي: "وقد ثبت أن الله عز وجل وضع في أشياء خواص، فمن أنكرها فهو كافر، ومن قال: لا فائدة في الطب فقد رد على الواضع والشارع، فلا يلتفت إلى قوله، وإنما يراد بالطب التسبب إلى دفع ضرر وإجلاب نفع " (6). وهو يرد كذلك علي من قال إن التداوى خروج عن الرضا بقضاء الله (7) قائلا إن من الرضا بقضاء الله التوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله الله مسببا، فليس للعطشان أن لا يريد الماء زاعما الرضا بالعطش الذي قضى الله به، وقد أمرنا الله بإزالة العطش بالماء في قوله: "وليأخذوا حذرهم " (8).
ويؤكد الذهبي أيضا عدم منافاة الطب والعلاج للتوكل على الله، ويرد على القائلين بأن العلاج رخصة من الشرع وتركه من باب التوكل، قائلا: "التوكل اعتماد القلب على الله، وذلك لا ينافي الأسباب ولا التسبب، فإن المعالج الحاذق يعمل ما ينبغي ثم يتوكل على الله في نجاحه، وكذلك الفلاح يحرث ويبذر ثم يتوكل في نمائه ونزوله الغيث، قال تعالى: "خذوا حذركم (9) "، وقال عليه السلام: "إعقلها وتوكل " " (10).
ويذهب بعض أطباء الإسلام إلى القول بأن الطب من الفطرة، أي تحكم بضرورته فطرة الإنسان، لأن المرء على حد قولهم: "مجبول على صيانة نفسه " (11)
وقد ذهب المسلمون بعد هذا إلى القول صراحة بأن النصوص الدينية كانت وراء إقبالهم على تعلم الطب والنبوغ فيه، وتأمل المعنى فيما يتوله الذهبي: "وقد تقدم قوله عليه السلام: "إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء"، قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث الغرائم على تعلم الطب " (12).
ويشير صاعد الأندلسي إلى عناية العرب منذ صدر الإسلام بالطب إلى جانب علوم اللغة والشريعة، فيقولى: "لم يعنوا (أي العرب) بشيء من العلوم إلا ما اتصل بلغتهم واحكام شريعتهم، مع استثناء علوم الطب، فإنها كانت معروفة لأفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها" (13).
ومما ينسب إلى الإمام الشافعي قوله: "لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب " (14)
خلاصة القول في موقف الإسلام من الطب أنه "من السنن القائمة لأنه صلي الله عليه وسلم فعله وأمر به " (1)، وأجمعت كافة الأمة الإسلامية على ثبوت أصله في الشرع، وشهود الكتاب والسنة بصحته (16) وهذا من أقوى الأسباب لازدهاره وعناية المسلمين به.
ثانيا: الاستفادة من تجارب وعلوم الأمم السابقة:
لم تكن استفادة المسلمين من تراث الأمم السابقة في الفلسفة والعلوم، ومنها الطب، عملا فرديا، وانما كانت بتوجيه من الإسلام ذاته، وسياسة للدولة الإسلامية، خصوصا في العصر العباسي، على نحو ما ذكرنا من قبل.
ولا يجوز أن نفهم العلم في الاسلام على أنه يعني فقط بأحكام الدين وآدابه، وأنه لا شأن للإسلام بالعلوم الكونية أو المادية، فإن مثل هذا الفهم خاطىء، ذلك أن الإسلام جاء شاملا لكافة ضروب النشاط الانساني، ومنها البحث الكوني، وقد أمر الإنسان بتعمير هذا الكون المسخر له، وذلك يعني في نفس الوقت أن الكون المشاهد خاضع لإدراكه وبحثه، وأن ظواهره ليست بالشيء المبهم الغامض الذي لا يفسر، وأن بمقدوره الاستفادة من الكون واستغلال خيراته على أوسع نطاق لتأمين حياته ورفاهيتها، يقول تعالى: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " (17) ويقول تعالى: "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (18). وتوجيه القرآن في هذا الصدد هو في نفس الوقت تأكيد على روح المنهج العلمي الصحيح الذي يدفع الإنسان إلى محاولة استكشاف ما هو مجهول من هذا الكون وظواهره على أساس من الثقة بقدرة الإنسان وبالعلم في مواجهة الطبيعة. وكما يوجه القرآن النظر إلى البحث في الكون يوجهه أيضا إلى النظر في الإنسان، كما في قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد" (19) "وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (2).
ومما له دلالة على أن العلم في الإسلام غير محدود بحد معين قول الرسول (ص) في رواية تأبير النخل المعروفة: "أنتم أعلم بشئون دنياكم ". وهذا يفتح الباب واسعا أمام العقل ليستنبط من أنواع العلوم ما لا حصر له، ومنها علم الطب.
وتأمل المعنى في قول الإمام فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر": (21)
"وقد نطقت أحاديث كثيرة بأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان كثير المشاورة لأصحابه، ومن ذلك حديث أبي هريرة: " ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصبحت هذه المشاورة قاعدة شرعية، ولذلك قال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر رسول الله (ص) بذلك ليقتدي غيره به في المشاورة، ويصير سنة في أمته. ومع أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان أكمل الناس عقلا، إلا ان علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان ما لا يخطر على باله من وجوه المصالح، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا، وقد قال صلي الله عليه وسلم : "أنتم أعلم بشئون دنياكم "، ولذلك أيضا قال صلي الله عليه وسلم: "ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد امرهم "، ومعنى هذا أن مصالح الناس كثيرة ومتشعبة ولا يمكن تحديدها، وتختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان " (22)
لا حد إذن لما يمكن أن يستنبطه العقل البشري من أنواع العلوم التي تتعلق بمصالح الناس المتغيرة من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان. وهذا هو الذي دفع فقهاء الإسلام إلى اعتبار العلوم والصناعات فروض كفاية، ومنها علم الطب، ودراستها عبادة لله تعالى، وأنه يتعين على ولي الأمر أن يدبرها في المجتمع لأن فقدان أي منها يسبب حرجا للمسلمين.
من هذا المنطلق شرع المسلمون منذ العصر الأموي في الاستفادة من علوم الأمم السابقة على اختلافها، وسنقصر حديثنا هنا على علم الطب.
لم يقف المسلمون عند حد ما ورد في النصوص الدينية- فيما يعرف بالطب النبوي- لأنهم أدركوا أن العلوم الدنيوية في تطورها تحتاج إلى دوام البحث والنظر، والوقوف على ما عند الأمم الأخرى منها، كما أدركوا أن ما ورد في الطب النبوي هو من قبيل التوجيهات العامة، وعليهم أن يبحثوا في الأصول العلمية له، فيقول ابن خلدون في المقدمة حول هذا ما نصه: "والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (أي من قبيل الطب المبني على الخبرة لا على قانون طبيعي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلي الله عليه وسلم من نوع أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النمو من العمل، فإنه صلي الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم "، فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع " (23).
ولكننا لا نوافق ابن خلدون على أن الطب النبوي يستخدم في التبرك فقط، صحيح أنه لا يتضمن أي نظرية طبية محددة، ولكن قيمته راجعة إلى أنه يحدد للمسلمين الطريق إلى اكتساب الصحة، خصوصا عن طريق الوقاية من الأمراض، واكتساب العادات الغذائية الصحيحة. فضلا عن أنه هو الذي حرك هممهم وحث غرائمهم على تعلم الطب كما ذكرنا من قبل، وهو الذي شكل المناخ العام للممارسة الطبية عند المسلمين.
مهما يكن من شيء، فإن المسلمين شعروا بضرورة الاستفادة من علوم وتجارب الأمم السابقة، وكان أول اتصال لهم بمدرسة الإسكندرية القديمة، وكان يمارس فيها الطب اليوناني مختلطا بالطب المصري (24)، وقد أسهمت هذه المدرسة في نقل العلوم اليونانية إلى العرب، وكان لمؤلفات علمائها تأثيرها الملحوظ في دراساتهم الأولى، وفي ماقدمتها كتب طبية ترجمت مبكرا إلى السريانية والعربية. ويذكر ابن النديم أن أول نقل في الإسلام كان في عهد الأمير الأموي خالد بن يزيد، المتوفي سنة 85 هـ الذي ذهب إلى الإسكندرية ليتمكن من علم الكيمياء. وفي عهد عمر بن عبد العزيز المتوفي سنة 101 هـ أسلم طبيب إسكندراني هو ابن أبجر، واعتمد عليه عمر بن عبد العزيز في الطب، ويذكر كذلك أن أول مستشفى إنشيء في الإسلام كان على عهد الوليد بن عبد الملك المتوفي سنة 88 هـ (2).
وكان العصر العباسي نقطة تحول رئيسية في مجال الطب الإسلامي، وبدأ المسلمون سنة 148 هـ، وذلك في عصر المنصور العباسي، الاتصال بمدرسة طبية مشهورة هي مدرسة جنديسابور، (26) وقد أسست في عهد كسرى أنو شروان المتوفي سنة 578 م. ذلك أن المنصور العباسي استدعى أحد أطبائها، وهو جورجيس بن بختيشوع، لمعالجته أن حالة سوء هضم وقد نجح ابن بختيشوع في معالجة الخليفة وكان ها سببا في المكانة التي نالها هو واسرته لدى الخليفة المنصور ومن جاء بعده من الخلفاء، وهكذا انتقلت مدرسة جنديسابور إلى بغداد. واتجه المترجمون آنذاك إلى ترجمة الكتب الطبية اليونانية إلى السريانية ومن هذه الأخيرة إلي العربية، وكان في مقدمة المترجمين جورجيس بن بختيشوع وحفيده جربل وأبو يحي البطريق ويوحنا بن ماسويه. ثم بدأت الترجمة من اليونانية رأسا بعد إرسال بعوث من حلفاء بني العباس إلى مواطن المخطوطات الطبية، وأجزل خلفاء بني العباس للمترجمين العطاء، وكان من أبرزهم حنين بن إسحق المتوفي سنة 877 م، وكون له مدرسة طبية مشهورة من أبرز رجالها ابنه إسحق، وابن اخته حبيش بن الأعثم، واصطفان بن باسيل. (27)
وكان الطب اليوناني هو الأساس الذي بنى عليه أطباء الإسلام علم الطب، واعتمدوا فيه على كل من أبقراط وجالينوس وكان من مميزات الطب اليوناني- من ناحية المنهج- توخى البحث عن العلل الطبيعية للأمراض، وأدى هذا اليونانيين إلي دراسة أعضاء الجسم ووظائفها. ويرى بعض الباحثين في الغرب أن الطب ارتفع على أيدي اليونان إلى مستوى لم يتجاوزه الطب في أيامنا هذه إلا في الجزيئات والمعلومات الخاصه (28).
وبلغ إعجاب المسلمين بأبقراط أحيانا إلى أنهم قالوا إنه مؤيد بتأييد إلهي (29)، خصوصا وأنه كما يقول سارتون ارتفع بمهنة الطب في جانبها الأخلاقي حين حدد التزامات الطبيب وآدابه.
ولم ينظر المسلمون إلى اعتماد أطباء الإسلام على الطب اليوناني في أول عهدهم بالاشتغال به، أو بعد ذلك، على أنه مخالف للدين، بل على العكس من ذلك رأوا أنه من الطبيعي أن يأخذ اللاحق عن السابق حتى لو كان السابق مخالفا لملة الإسلام، وقد بين لنا ابن رشد ذلك قائلا: "فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن الالة (السكين) التي تصح بها التذكية (الذبح الشرعي) ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعنى بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام (يشير هنا إلى فلاسفة اليونان). اذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص (يشيرهنا إلى المنطق)، فانه ينبغي ان نضرب بأيديناالى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه ". (30)
لقد كان ابن رشد في ذلك يعبر"عن روح الحضارة الإسلامية، فقد حث الاسلام المسلمين كما رأينا على اكتساب العلوم الدنيوية وتطويرها، والاستفادة في هذا السبيل بتجارب الأمم السابقة وعلومها. وقد نبه ابن رشد إلى ضرورة النظرة المستقلة للتراث المنقول، وضرورة التمييز دائما بين ما هو صواب وما هو خطأ.
(2) وهذا هو ما فعله أطباء الإسلام بعد نقل علوم الطب إليهم، فلم يعودا أتباعا لجالينوس وأبقراط، بل أخذوا في نقد التراث الطبي اليوناني، وأضافوا إليه جديدا، وكانت هذه هي مهمة أعلام الطب الذين ظهروا بعد حركة النقل. وكان أول مؤلف لأول عمل طبي إسلامي على بن ربن الطبري مؤلف كتاب "فردوس الحكمة"، وقد ألفه سنة 236 هـ. وكان لهذا الكتاب قيمته في مجال علم الأمراض والصيدلة والحمية ، وكان الطبري أستاذا لطبيب عظيم من أطباء الاسلام هو أبو كبر بن زكريا الرازي ويعد أعظم اطباء العصور الوسطى من حيث عنايته بالطب الإكلينيكي، وكان أثره هو وابن سينا ضخما سواء في الشرق أو الغرب، ومن هنا أطلق عليه: جالينوس العرب، وهو مؤلف كتاب "الحاوي ". وقد رأس المستشفى الذي كان بمدينة الري، ثم المستشفى الذي كان ببغداد. وعرف عن الرازي مهارته الفائقة في تقدير سير المرصد وتحليل أعراضه وطريقة علاجه وشفائه (31). بل إنه كان خبيرا بالعلاج النفسي كذلك. وقد أسهم الرازي في ميدان الطب بحوالي ستة وخمسين مصنفا كما يذكر البيروني. وكان أول من ميز بين أمراض عديدة، وكذلك أول من كتب رسالة عن الجدري وكيفية علاجه، وفرق بينه وبين الحصبة، وله كشوفات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
وكان أبرز طبيب بعد الرازي على بن عباس المجوسي المعروف عند اللاتينيين باسم HALY ABBAS والمتوفي سنة 385 هـ تقريبا، ولمؤلفاته شهرة كبيرة، ومن أبرزها "كامل الصناعة"، وهو يتميز في مؤلفه هذا ينزعة نقدية واضحة لأطباء اليونان والمسلمين الذين سبقوه، وهو ينظر إليه على أنه حجة في الطب الإسلامي ومن ذوي المهارة في علاج أمراض مختلفة.
ظل على بن عباس المجوسي حجة الطب حتى جاء ابن سينا المتوفي سنة 428 هـ، والذي يعتبرأكبرأطباء الإسلام بلا منازع حتى أطلق عليه في الغرب لقب "أمير الأطباء"، ومن غريب أنه لأ يزال يسيطر على دراسات الطب في الشرق حتى يومناهذا (32).
وكان ابن سينا إلى جانب علمه بالطب حجة في الفلسفة، فهو من أكبر فلاسفة الإسلام والغرب على السواء، حتى أن مؤرخي الفلسفة في العصر الوسيط في أوروبا كانوا يصنفون الفلاسفة الأوروبيين فيقال: فلاسفة سينويون وفلاسفة رشديون. (32)
ولعل علم ابن سينا بالفلسفة هو الذي جعل منه طبيبا عظيما، فقد مكنته قدراته العقلية من أن ينظر في مجال الطب النظرة الكلية الشاملة، فيضع بذلك النظريات الطبية في صورة متكاملة. وقد خلف ابن سينا عددا من المؤلفات الطبية باللغة العربية وقليل منها باللغة الفارسية، ومنها رسائل تتناول أمراضا معينة، وأعظم مؤلفاته الطبية "القانون ". وكان ابن سينا كطبيب يتميز ببصيرة إكلينيكية في الطب، كما برع في وصف الأدولة والأمراض، كما في مرض التهاب السحايا مثلا، كما أن علمه بالفلسفة وما تشتمل عليه من دراسات للنفس الإنسانية جعله يتفوق في مجال الطب النفسي الجسمي، ويدرك العلاقة بين الوظائف النفسية والوظائف الجسمية. (34).
وقدر لابن سينا أن يرتفع بالطب الإسلامي إلى الذروة، كما قدر لكتابه القانون أن يصبح المرجع الأساسي للدارسين من بعده، وحول ذلك يقول الدكتور سيد حسين نصر: "بلغ الطب الإسلامي مع الرازي وابن سينا الذروة، وأصبح مرتبطا بكتابات هذين الرجلين في صورته المحددة التي أصبح على الأجيال التالية من طلاب الطب وممارسيه أن يأخذوا بها. وأصبح على طالب الطب أن يبدأ دراساته الرسمية ب "حكم " أبقراط و "مسائل " حنين بن إسحق، و "مرشد" الرازي، ثم يمضي إلى "ذخيرة" ثابت بن قرة، وكتاب "المنصوري " للرازي، ثم يضطلع بعد ذلك بدراسة الرسائل الست عشر لجالينوس، و "الحاوي " اللرازي)، و "القانون " (لابن سينا). وقد أصبح قانون ابن سينا بهذا المصدر الرئيسي لمهنة الطب، وأصبحت دراسته وفهمه الهدف الذي يوجه إليه كل ما اشتملت عليه مناهج الدراسة الطبية. وعلى الرغم من ظهور كثير من الموسوعات الطبية الهامة في قرون لاحقة باللغتين العربية والفارسية، فقد ظل "القانون " محتفظا بمكانته الرفيعة" (35)
استمرت حركة الطب في ازدهار بعد ابن سينا والرازي في كثير من أقطار العالم الإسلامي كمصر وسوريا، والمغرب والأندلس، وفارس وغيرها من الأقطار الشرقية.
ففي مصر كان بلاط الحاكم مسرح نشاط الطبيب الخازن طبيب العيون المعروف، وفي القرن الخامس الهجري كان هناك على بن رضوان المعروف عند اللاتينيين والذي كتب شروحا على أعمال جالينوس، وكانت مستشفيات مصر ومكتباتها تجذب الأطباء من أقطار أخرى. وبعد قرنين تقريبا وفد إلى مصر الطبيب الدمشقي المعروف ابن النفيس ليقيم بها، وقد توفي سنة 687 هـ، وترجع أهمية ابن النفيس في الطب إلى أنه كشف عن الدورة الدموية الصغرى وكان من المعتقد إلى عهد قريب أن الذي اكتشفها ميشيل سرفيتوس وكان ابن النفيس أيضا ممن نقدوا أعمال جالينوس في التشريح، وكذلك أعمال ابن سينا في كتابه "شرح تشريح القانون".
ومن الأطباء الموسوعيين المتأخرين الذين ظهروا في مصر داود الأنطاكي المتوفي سنة 1101 هـ 1599 م صاحب "التذكرة"، وهي موسوعة تصور مدى ما وصل إليه الطب عند المسلمين حتى القرن السادس عشر الميلادي.
ونبغ كثير من الأطباء في الأندلس والمغرب، ومن أبرزهم أبو القاسم الزهراوي المعروف عند اللاتينيين وكان أعظم شخصية في طب الجراحة عند المسلمين، وهو مؤلف "التصريف لمن عجز عن التأليف "، توفي حوالي سنة 453هـ وابن زهر أبو مروان بن عبد الملك المتوفي في إشبيلية حوالي سنة 557هـ وخلف عدة مصنفات طبية من أهمها "التيسير في المداواة والتدبير"، وهو من أعظم أطباء الأندلس، ويعد الثاني بعد الرازي في الطب الإكلينكي.
وكذلك كان الفيلسوف ابن رشد المتوفي سنة 595 هـ طبيبا بارزا، وألف موسوعة في الطب تعرف ب "الكليات " وكذلك برز من فلاسفة اليهود في الطب ابن ميمون.
(3) والآن بعد أن بينا كيف ازدهر الطب عند المسلمين، وما هي الأسباب التي أدت إلى ازدهاره، ننتقل إلي الحديث عن علاقة الطب بالفلسفة، والكليات الفلسفية التي قامت على أساسها النظرية الطبية الإسلامية:
لما نقلت الفلسفة اليونانية إلى المسلمين تأثر فلاسفة الإسلام وعلماؤه بقسمة أرسطو للفلسفة إلى: نظرية، وتشمل العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي ، وعملية وتشمل الأخلاق وتدبير المنزل وتدبير الدولة. (37) ومنذ أرسطو أصبحت العلوم الطبيعية على اختلافها مندرجة تحت الفلسفة، وظلت كذلك إلى بدء انفصال العلوم عن الفلسفة في أوروبا تدريجيا منذ عصر النهضة حتى القرن الماضي.
ونظر فلاسفة الإسلام- متابعين في ذلك أرسطو- إلى العلم الطبيعي على أنه العلم المتعلق بالمادة أو الأجسام، ومن بينها الأجسام الحية، لأن الجسم الحي موجود متحرك بالنمو والنقصان (38". ومن ثم اعتبر الطب الذي يبحث في صحة الجسم الإنساني ومرضه فرعا من فروع العلم الطبيعي الذي هو بدوره فرع من فروع الفلسفة، ويعرف ابن خلدون علم الطب قائلا: "ومن فروع الطبيعيات صناعة الطب، وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح، فيحاول صاحبها ضغط الصحة وبرء المرض بالأدوية والأغذية (39) "
واعتمد أطباء الإسلام على نظرية أبقراط في الأخلاط والأمزجة، وهي ترتبط بنظرية يونانية طبيعية هي نظرية العناصر الأربعة التي ترجع إلى الفيلسوف أنباذوقليس، الذي يرى أن العالم يتألف من النار والهواء والماء والتراب، وكان هو نفسه طبيبا ومؤسسا لمدرسة صقلية الطبية "40". كما نجد عند متأخري الفيتاغوريين النظرية الأنباذوقلية في العناصر الأربعة مرتبطة بالأضرار وهي: الحار والبارد، والرطب واليابس. (41)
وقد لخص أحد أطباء الإسلام وهو الأزرقي هذه الكليات الفلسفية فقال عن ارتباط الأخلاط (42)، وهي أربعة، بالعناصر الأربعة، فقال: "الأول خلط الصفراء، وهو حار يابسا، أصله متولد من عنصر النار الطبيعي، ومسكنه في الانسان المرارة، والثاني خلط الدم، وهو حار رطب متولد من عنصر الهواء الطبيعي، ومسكنه في الإنسان الكبد ، والثالث خلط البلغم، وهو بارد رطب متولد من عنصر الماء، ومسكنه من الإنسان الرئة ، والرابع خلط السوداء، وهو . بارد يابس أصله متولد من عنصر الأرض، ومسكنه من الإنسان الطحال) .
ويرتبط بالأخلاط امزجة معينة، وكل مزاج منها له طبيعتان: فالصفراوي كما رأينا حار جاف، والدموي حار رطب، والبلغمي بارد رطب، والسوداوي بارد جاف. وترتبط الأخلاط أيضا الحالات النفسية للانسان، ويقول الأزرقي حول هذا: "فالسرور من الدم، والحرارة من الصفراء، والخوف للسوداء، والحزن للبلغم، فهذه الأخلاط الأربعة بها قوام البدن، ومنها صلاحه، ومنها فساده "
وذهب أطباء الإسلام إلى أن المرض ينشأ عن فساد الأخلاط إما بالنقص أو الزيادة، أو بفساد طبيعتها، أو عدم نضوجها.
ولما كان كل شيء في عالم الكون والفساد يوجد من إختلاط العناصر الأربعة، فكذلك كل جسم إنساني له تكوينه المزاجي الذي يتولد عن الأخلاط الأربعة.
واعتقد أطباء الإسلام أن في مقدور الجسم ضغط التوازن بين الأخلاط، وهذا الذي يميز حالة الصحة. وليست وظيفة الطب في رأيهم أكثر من تقديم العون على تحقيق ذلك المتوازن في حالة اختلاله ليعمل الجسم بصورة سليمة، وما الأغذية والأدوية ايضا إلا عوامل مساعدة لقدرة البدن الطبيعية على الحياة. ولكل مرض عندهم أدوية، وللأدوية والأغذية أيضا أمزجة فمنها الحار ومنها البارد، والهدف عند الطبيب هو أن يعين طبيعة المريض ذاتها (45) ومن هنا تبع علم الصيدلة الإسلامي نظرية الأخلاط والأمزجة، وكذلك ارتباط نظام الحمية (تنظيم الغذاء) بتلك النظرية ارتباط وثيقا.
وينظر الطب في رأي ابن سينا إلى جسم الإنسان من عدة وجوه (46)، فهو ينظر إلى الجسم من حيث العناصر التي يتألف منها، وينظر إليه من حيث التشريح، ومن حيث وظائف اعضائه، ومن حيث الصحة والمرض، ومن حيث الاطعمة والأشربة والحمية، ومن حيث الأدوية. وهو يرى أن ثمة عوامل تؤثر في عملية التوازن الخاصة بأخلاط الجسم، وقد يرجع اختلاف الأمزجة إلى اختلاف الأجناس البشرية، أو إلى البيئة أو المناخ أو السن أو الذكورة أو الأنوثة، وعلى الطبيب أن يضع في اعتباره هذه الأختلافات التي تعد عوامل خارجية (47)
وإذا أردنا أن نلخص- من ناحية المنهج العلمي في البحث- ما تميز به أطباء الإسلام قلنا إنهم، في نظرتهم إلى الإنسان، كانوا يرون أنه مؤلف من بدن وروح، وليس من بدن مساري فقط، كما نظروا إليه على أنه كل لا على أنه مجرد أجزاء لا علاقة بينها في حالي المرض والصحة، كما كانوا داعين دائما إلي أن كل إنسان له شخصيته المتميزة أو المتفردة، كما نظروا إليه من حيث ارتباطه بالكون او الطبيعة، ومن حيث ارتباطه بالبيئة التي يعيش فيها، كما أنهم نبهوا إلى الفروق الفردية بين إنسان وانسان، وإلى التغيير المستمر في حالة الجسم، أو على حد تعبير داود الأنطاكي "عدم بقاء المركب على حالة واحدة" (8،)، وهذه كلها في رأينا من القواعد المنهجية الجديرة بالاعتبار، فهي تدل على علمية النظرة، والمهم في العلم هو صحة المنهج لا النتائج، لأن النتائج الصحيحة لا بد آتية مع استخدام المنهج الصحيح، ومن المعروف أن نتائج العلم تكون في وقت ما احتمالية إلى أن يثبت خطؤها فيتجاوزها العلماء إلى غيرها وهكذا.
ومما يستوقف النظر بعد هذا إعلاء المسلمين من شأن علم الطب، حتى أن داود الأنطاكي ليذهب في مقدمة كتابه "التذكرة" إلى حد القول بأنه ليس هناك علم من العلوم يستغنى عن علم الطب أصلا، لأن اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل (49). وهذا الرأي إن دل على شيء فإنما يدل على أن أطباء الإسلام كانوا واثقين بعلمهم ثقة لا حد لها، مدركين لأهميته في حياة الإنسان.
4) وكان أطباء الإسلام إلى جانب ما تقدم حريصين كل الحرص على تأصيل أخلاقيات معنية استمدوها من الإسلام لعلم الطب وممارسته، فيقول الأنطاكي عن أخلاقيات الطبيب وقيمه: "فإذا لم يكن العارف به (أي بعلم الطب) أمينا متصفا بالنواميس الإلهية، حاكما على عقله، قاهرا لشهوات نفسه، أنفذ أغراض هواه، وبلغ من عدوه مناه، ومتى كان عاقلا وله ذلك على أن الانتصار للنفس من الشهوات البهيمية، والصبر والتفويض للمبدع الأول (الله) من الأخلاق الحكيمة النبوية" (15)
ومن أبرز ما يميز أطباء الإسلام خلق التواضع، فلم يدعوا لأنفسهم معرفة كل مرض وعلاجه وشفائه، ولا أن بإمكانهم أن يدفعوا الموت عن الناس، أو يطيلوا في أعمارهم: "فالموت متحتم، لكن الطبيب يعالج من علل العمر، قال حكيم (أي طبيب): الموت قائم بالأجساد بالذات، وإنما الطب تحسين أيام المهلة (أي العمر) فالطب يحفظ صحة الصحيح، ويردها بقدر الإمكان على العليل " (1)، ويقول الأزرقي: "إعلم أن الطبيب الحكيم الماهر ليس يشترط عليه أن يبرىء العليل، فضلا عن أن يزيد في العمر، ولكن عليه أن ينظر في العلة" (52)
بل إن بعض الأطباء من المسلمين ردوا على بعض أولئك الذين لا يؤمنون بالطب والعلاج ردودا لا تخلو من طرافة، فقال الأزرقي إن الطبيب نفسه معرض للمرض، إذ للمرض أسباب معينة قد لا يعلم بها الطبيب نفسه، وقد يعلمها ويغفل عنها أو لا يحتاط لنفسه منها أحيانا، أما من يقول: كم قد مرضت ثم برئت من غير دواء فهو جاهل، لأنه لو استطب لكان ذلك أسرع إلي شفائه، لأن الطبيب يعين قوى الجسم على دفع المرض، وهذه القوى هي الدافعة. (51)
ومن تقاليد الممارسة الطبية في الإسلام والتي ترجع إلى شواهد من النصوص الدينية نفسها ما بينه لنا الذهبي وهو من كبار فقهاء الإسلام من جواز مداواة النساء للرجال استنادا إلى مداواة أم عطية وأم سليم للمرضى في غزوات النبي في) صلي الله عليه وسلم كما نص الإمام أحد بن حنبل أن الطبب يجوز له أن يظر من المرأة الأجنبية إلى ما تدعو اليه الحاجة وإلى العودة وكذلك يجوز للمرأة أن تنظر الى عورة الرجل عند الحاجة وهي حالة المرض إذا لم يوجد رجل أو محرم. بل أجاز الأطباء من المسلمين استنادا إلى نصوص الدين جواز شرب المرأة دواء ليقطع الحيض إذا كان دواء يؤمن ضرره إذا لم يكن لها زوج، فإن كان لها زوج وقفت على إذنه. (54).
وبمثل هذه الأخلاقيات وتقاليد الممارسة الطبية، وبالروح العلمية الموضوعية التي تميز بها علم الطب الأسلامي، وبالجهود العلمية والكشوفات الرائدة في ميدانه، حظي علم الطب الإسلامي باحترام كبير في الغرب المسيحي منذ العصور الوسطى حتى مطالع العصر الحديث، وهذا ما سنشير إليه إجمالا فيما يلى:
(5) كان للفلسفة الاسلامية، بما اشتملت عليه من العلوم (ومنها علم الطب)، أثر كبير على الحضارة الأوروبية في العصر الوسيط، وقد بين الأستاذ إتيين جيلسون أكبر أساتذة فلسفة العصر الإسلامي الوسيط في عصرنا ان أوروبا كانت في القرن الثالث عشر الميلادي تتطلع الى الفكر الاسلامي تريد أن تأخذ عنه وتفيد منه، وأنه كان لما نقل من الكتب العربية واليونانية إلى اللاتينية أثر قوي في وجود نشاط فكري هائل في أوروبا وظهور الجامعات (55).
وقد بدأت ترجمة الكتب الطبية من العربية إلى اللاتينية منذ القرن الحادي عشر الميلادي على يد رهبان مونتي كاسيني، وكانوا في هذا قدوة لمترجمي القرنين التاليين (56). وترجم قسطنطين الإفريقي المتوفي سنة 1087 م، وهو من أصل عربي، كتاب "الفصول " لأبقراط مع شرح جالينوس، وكتابين لجالينوس نفسه (57)، كما ترجم عددا من المخطوصإت الطبية العربية منها كتاب "كامل الصناعة" لعلي بن عباس في دير بسالرنو بإيطاليا، فكانت جهوده نواة لنشأة مدرسة سالرنو الطبية.
وترجم جيرارد الكريموني المتوفي سنة 1187 م كتاب "القانون " لابن سينا، وهو أكبر كتاب عرفته أوروبا في العصر الوسيط، ونشرت له ثلاثون طبعة مبنية على الترجمة اللاتينية في غرب أوروبا (8)، وترجم "المنصوري " للرازي، وكان للمجلد التاسع منه تأثير عظيم في أوروبا اللاتينية، فكان يدرس في العصور الوسطى، وهو يحتوي على وصف دقيق لجميع أعضاء الجسم، وكانوا يسمون في أوروبا Nonus Almansori واستمر يدرس بانتظام في جامعة توبخبن إلى أواخر القرن الخامس عشر . وترجم جيرارد الكريموني أيضا كتاب "التصريف " لأبي القاسم الزهراوي، والزهراوي هو الذي أرسى قواعد الجراحة العربية في أوروبا العصور الوسطى.
ومن الكتب الطبية التي ترجمت إلى اللاتينية كتاب "الحاوي " للرازي سنة 1486 م، وكان أحد الكتب التسعة التي تكونت منها مدرسة الطب في باريس بأكملها في القرن الرابع عشر، وكان مصدرا للعلوم الطبية وخاصة في العلاج الى مابعد عصر النهضة بزمن طويل (59). ونشر كوينخ الجزء الأول منه وهو خاص بالتشريح مع ترجمة فرنسية تحت عنوان: Trois traites d' Anatomie Arabe ، وذلك في ليدن سنة 1953، وترجم برونر القسم الخاص منه بالرمد، ونال به درجة الدكتوراه من برلين سنة 1900 م.
ومما ترجم أيضا إلي اللاتينية من مؤلفات أطباء المسلمين رسالة الرازي عن الجدري والحصبة، ترجمها فالا Valla ونشرها في البندقية عام 1498 م، ونقلت إلى اليونانية عام 548ام، كما ترجمت إلى اللغات الفرنسية والألمانية والانجليزية.
وترجم طبيب إيطالي يدعى ألباجو "شرح تشريح القانون " لابن النفيس إلى اللاتينية في البندقية لأول مرة سنة 547 ام، ومن المعتقد أن يكون هارفي وقد اطلع عليه.
والمتتبع لتاريخ المدارس الطبية الأوروبية في مونبلييه ونابولي وبولونيا وبادوا وإكسفورد وكمبردج يدرك بوضوح أنها قامت أساسا على دراسة الكتب الطبية العربية المترجمة إلى اللاتينية، وظل الأمر كذلك إلى حوالي القرن السادس عشر الميلادي، بل ظل كتاب "القانون " لابن سينا يدرس في جامعتي مونبلييه ولوقان إلي القرن السابع عشر الملادي- وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى غزارة العطاء الذي أعطاه أطباء الإسلام لأوروبا على مدى عدة قرون، ومشاركتهم في دفع عجلة التقدم للحضارة الإنسانية.
ا لمرا جع
(1) Nutting (A): The Arabs, Mentor Books, New york , 1965, p. 127
(2) الأزرقي: تسهيل المنافع، القاهرة 1349 هـ، ص 7.
(3) الذهبي: الطب النبوي، بهامش تسهيل المنافع، القاهرة 1349 هـ، ص 100
(4) صحيح البخاري، ح2، ص 94 وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، ح7، ص 200
(5) محمد كرد علي: الإدارة الإسلامية، القاهرة 1934، ص 21- 22.
(6) تسهيل المنافع، ص 7
71) نفس المرجع، ص 8
(8) النساء:102
(9 ) النساء:71
(10) الطب النبوي، 103- 104
(11) نفس المرجع، ص 101.
(12) نفس المرجع، ص 107
(13) طبقات الأمم، البخف 1967، ص 63.
(14) الطب النبوي، ص 107
(15) نفس المرجع، ص 102
(16) تسهيل المنافع، ص 2.
(17) الجائية، 13
(18)1لنحل:12
(19) فصلت:53
(20) الذاريات: 21.
(21) آل عمران: 159
(22) التفسير الكبير، ح3، ص 83، وانظر ايضا الاحكام للآمدي، ح4، ص 23، ونيل الأوكار للشوكاني، ح7، ص 188- 189.
(23) مقدمة ابن خلدون، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 346.
(4 2) Nasr (Seyyed Hossein): Science and civilization in Islam, Harvard University press, Cambridge < massachusetts, 1968 , p. 191
(25) توفيق الطويل (الدكتور): لقطات علمية من تاريخ الطب الغربي، مجلة عالم الفكر الكويتية، مجلده، عددا، ص 62.
(6 2) Science and civilization in Islam, p.193
(27) نسبت إليه اول ترجمة لكتب ديسقوريدس في الاقراباذين، وكتب أوريباسيوس الذي أذاع علوم جالينوس
(28) الدومييلي: العلم عند العرب، ترجمة عبد الحليم البخار، القاهرة 1962 م، ص 51- 52
(29) لقطات علمية من تاريخ الطب العربي، ص 264
(35) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، القاهرة 1328 هـ، ص 4- ه.
(31) Science and civilization in Islam, p.207
(32) Ibid, p.209
(33) Gilson (E) La Philosophie au moyen age , Paris 1952 p.347-348
(34) انظر: القانون، طبعة بولاق 1294 هـ، مجلد ا، ص 94- 95.
(30) Science and civilization in Islam, p.211-212
(36). Elgood (C.E.) A Medical History of persia and the eastern California, Cambridge 1951, p.336
(37) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، القاهرة 1946 م، ص 18 1.
(38) نفس المرجع، ص 134.
(39) المقدمة، ص 345.
(40) Burnet (john) Greek Philosophy , Thales to plats, Macmillan
(1 4) New york , 1968, p. 57 Ibed , p.71
(42) الأخلاط أشبه بالسوائل، وقد عرف ابن سينا الخلط بأنه جسم رطب سيال يستحيل إليه الغذاء أولا قبل أن يتمثله البدن، القانون، مجلد 1، ص 13.
(43) تسهيل المنافع، ص 3، وانظر أيضا تذكرة داود، القاهرة 1926 م، ص 9 وما بعدها.
(44) تسهيل المنافع، ص 3- 4. (45) مقدمة ابن خلدون، ص 345.
(46) Shah: the Constituation of Medicine in " theories and Philophies of Medicine" Delhi: Institute of Medicine and medical reaserch, 1962, p.97
(47) عرض ابن سينا لهذا في الكتاب الأول من القانون
(48) التذ كرة، ص 7
(49) نفس المرجع، ص 7.
(50) التذكرة، ص 4، ص 8
(51) الطب النبوي، ص 101.
(52) تسهيل المنافع، ص 6
(53) تسهيل المنافع، ص 7- 8.
(54) الطب النبوي، ص 112- 113
(5 5) La philosophie au moyen age , p.237 et suiv, p391 et suiv.
(56) يوسف كرم: الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، القاهرة 1946، ص 80
(57) نفس المرجع، ص 93- 94.
(58) نفس المرجع، ص 97.
(59) الطب العربي وتأثيره في مدنية أوروبا، ص 21
(1) يقول سير وليام أوسلر في كتابه "تطور الطب الحديث" إنه قدر لأعمال ابن سينا أن تظل "انجيلا طبيا (في أوروبا) لمدة أطول من أي عمل آخر" (1). والواقع أن كتابه "القانون " ظل يدرس في بعض جامعات أوروبا إلى القرن السابع عشر الميلادي. وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل على أهمية ما أسهم به ابن سينا في ميدان العلوم الطبية في العالمين الإسلامي والغربي. وليس ابن سينا إلا واحدا من أشهر أطباء الإسلام الذين كانت لهم مشاركة علمية وعملية في تقدم علم الطب عند المسلمين. وهذا التقدم يعود في رأينا إلى عاملين رئيسيين هما: الإسلام ذاته الذقي يؤكد على أهمية الطب، ويفتح الباب أمام البحث في الأمراض وطرق الوقاية منها، وعلاجها، والاستفادة من تراث الأمم السابقة في الفلسفة والطب وسائر العلوم كسياسة للدرلة الإسلامية، خصوصا في العصر العباسي، وليست كعمل فردي، وقد أدت هذه السياسة إلى نقل التراث الفلسفي اليوناني بما فيه الطب، فأفاد منه المسلمون وطوروه وأضافوا إليه جديدا. وسنحاول فيما يلي أن نتحدث عن هذين العاملين بشيء من التفصيل.
أولا: موقف الاسلام من الطب:
!ول لصا نلاحظه أن الإسلام قد حث المسلمين على التداوي، وهو مأمور به شرعا. ويستند علماء الإسلام في ذلك إلى أحاديث نبويه مثل قوله صلي الله عليه وسلم: "يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء". وكان النبي يأمر أصحابه بعرض أنفسهم علي الحارث بن كلدة، وكان طبيب العرب والعجم. وروى كذلك أن عمر بن الخطاب قال: أرسلوا إلى الطبيب ينظر جرحى فأرسلوا إليه (2)، ومعنى التداوي استعمال الدواء. (3)
وقلإحظ بعد هذا أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يسمح للنساء بالتطبيب، وخدمة الجرحى (التمريض) وقد جعل صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ في خيمة لأمرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوى الجرحى، وكذلك كانت أخت لها تسمى كعبة بنت سعيد الأسلمية تعالج الجرحى.
وقد دار بحث دقيق بين علماء الإسلام حول الطب من حيث موافقته أو معارضته لقضاء الله، وقد ذهب أطباء الإسلام إلى القول بأنه لا يعارض قضاء الله، كما أكدوا على أن الإسلام نفسه يدعو إلى الإيمان بالأسباب والمسببات، ومن ينكر الأسباب فهو كافر، فيقول الأزرقي: "وقد ثبت أن الله عز وجل وضع في أشياء خواص، فمن أنكرها فهو كافر، ومن قال: لا فائدة في الطب فقد رد على الواضع والشارع، فلا يلتفت إلى قوله، وإنما يراد بالطب التسبب إلى دفع ضرر وإجلاب نفع " (6). وهو يرد كذلك علي من قال إن التداوى خروج عن الرضا بقضاء الله (7) قائلا إن من الرضا بقضاء الله التوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله الله مسببا، فليس للعطشان أن لا يريد الماء زاعما الرضا بالعطش الذي قضى الله به، وقد أمرنا الله بإزالة العطش بالماء في قوله: "وليأخذوا حذرهم " (8).
ويؤكد الذهبي أيضا عدم منافاة الطب والعلاج للتوكل على الله، ويرد على القائلين بأن العلاج رخصة من الشرع وتركه من باب التوكل، قائلا: "التوكل اعتماد القلب على الله، وذلك لا ينافي الأسباب ولا التسبب، فإن المعالج الحاذق يعمل ما ينبغي ثم يتوكل على الله في نجاحه، وكذلك الفلاح يحرث ويبذر ثم يتوكل في نمائه ونزوله الغيث، قال تعالى: "خذوا حذركم (9) "، وقال عليه السلام: "إعقلها وتوكل " " (10).
ويذهب بعض أطباء الإسلام إلى القول بأن الطب من الفطرة، أي تحكم بضرورته فطرة الإنسان، لأن المرء على حد قولهم: "مجبول على صيانة نفسه " (11)
وقد ذهب المسلمون بعد هذا إلى القول صراحة بأن النصوص الدينية كانت وراء إقبالهم على تعلم الطب والنبوغ فيه، وتأمل المعنى فيما يتوله الذهبي: "وقد تقدم قوله عليه السلام: "إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء"، قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث الغرائم على تعلم الطب " (12).
ويشير صاعد الأندلسي إلى عناية العرب منذ صدر الإسلام بالطب إلى جانب علوم اللغة والشريعة، فيقولى: "لم يعنوا (أي العرب) بشيء من العلوم إلا ما اتصل بلغتهم واحكام شريعتهم، مع استثناء علوم الطب، فإنها كانت معروفة لأفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها" (13).
ومما ينسب إلى الإمام الشافعي قوله: "لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب " (14)
خلاصة القول في موقف الإسلام من الطب أنه "من السنن القائمة لأنه صلي الله عليه وسلم فعله وأمر به " (1)، وأجمعت كافة الأمة الإسلامية على ثبوت أصله في الشرع، وشهود الكتاب والسنة بصحته (16) وهذا من أقوى الأسباب لازدهاره وعناية المسلمين به.
ثانيا: الاستفادة من تجارب وعلوم الأمم السابقة:
لم تكن استفادة المسلمين من تراث الأمم السابقة في الفلسفة والعلوم، ومنها الطب، عملا فرديا، وانما كانت بتوجيه من الإسلام ذاته، وسياسة للدولة الإسلامية، خصوصا في العصر العباسي، على نحو ما ذكرنا من قبل.
ولا يجوز أن نفهم العلم في الاسلام على أنه يعني فقط بأحكام الدين وآدابه، وأنه لا شأن للإسلام بالعلوم الكونية أو المادية، فإن مثل هذا الفهم خاطىء، ذلك أن الإسلام جاء شاملا لكافة ضروب النشاط الانساني، ومنها البحث الكوني، وقد أمر الإنسان بتعمير هذا الكون المسخر له، وذلك يعني في نفس الوقت أن الكون المشاهد خاضع لإدراكه وبحثه، وأن ظواهره ليست بالشيء المبهم الغامض الذي لا يفسر، وأن بمقدوره الاستفادة من الكون واستغلال خيراته على أوسع نطاق لتأمين حياته ورفاهيتها، يقول تعالى: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " (17) ويقول تعالى: "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (18). وتوجيه القرآن في هذا الصدد هو في نفس الوقت تأكيد على روح المنهج العلمي الصحيح الذي يدفع الإنسان إلى محاولة استكشاف ما هو مجهول من هذا الكون وظواهره على أساس من الثقة بقدرة الإنسان وبالعلم في مواجهة الطبيعة. وكما يوجه القرآن النظر إلى البحث في الكون يوجهه أيضا إلى النظر في الإنسان، كما في قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد" (19) "وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (2).
ومما له دلالة على أن العلم في الإسلام غير محدود بحد معين قول الرسول (ص) في رواية تأبير النخل المعروفة: "أنتم أعلم بشئون دنياكم ". وهذا يفتح الباب واسعا أمام العقل ليستنبط من أنواع العلوم ما لا حصر له، ومنها علم الطب.
وتأمل المعنى في قول الإمام فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر": (21)
"وقد نطقت أحاديث كثيرة بأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان كثير المشاورة لأصحابه، ومن ذلك حديث أبي هريرة: " ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصبحت هذه المشاورة قاعدة شرعية، ولذلك قال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر رسول الله (ص) بذلك ليقتدي غيره به في المشاورة، ويصير سنة في أمته. ومع أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان أكمل الناس عقلا، إلا ان علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان ما لا يخطر على باله من وجوه المصالح، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا، وقد قال صلي الله عليه وسلم : "أنتم أعلم بشئون دنياكم "، ولذلك أيضا قال صلي الله عليه وسلم: "ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد امرهم "، ومعنى هذا أن مصالح الناس كثيرة ومتشعبة ولا يمكن تحديدها، وتختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان " (22)
لا حد إذن لما يمكن أن يستنبطه العقل البشري من أنواع العلوم التي تتعلق بمصالح الناس المتغيرة من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان. وهذا هو الذي دفع فقهاء الإسلام إلى اعتبار العلوم والصناعات فروض كفاية، ومنها علم الطب، ودراستها عبادة لله تعالى، وأنه يتعين على ولي الأمر أن يدبرها في المجتمع لأن فقدان أي منها يسبب حرجا للمسلمين.
من هذا المنطلق شرع المسلمون منذ العصر الأموي في الاستفادة من علوم الأمم السابقة على اختلافها، وسنقصر حديثنا هنا على علم الطب.
لم يقف المسلمون عند حد ما ورد في النصوص الدينية- فيما يعرف بالطب النبوي- لأنهم أدركوا أن العلوم الدنيوية في تطورها تحتاج إلى دوام البحث والنظر، والوقوف على ما عند الأمم الأخرى منها، كما أدركوا أن ما ورد في الطب النبوي هو من قبيل التوجيهات العامة، وعليهم أن يبحثوا في الأصول العلمية له، فيقول ابن خلدون في المقدمة حول هذا ما نصه: "والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (أي من قبيل الطب المبني على الخبرة لا على قانون طبيعي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلي الله عليه وسلم من نوع أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النمو من العمل، فإنه صلي الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم "، فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع " (23).
ولكننا لا نوافق ابن خلدون على أن الطب النبوي يستخدم في التبرك فقط، صحيح أنه لا يتضمن أي نظرية طبية محددة، ولكن قيمته راجعة إلى أنه يحدد للمسلمين الطريق إلى اكتساب الصحة، خصوصا عن طريق الوقاية من الأمراض، واكتساب العادات الغذائية الصحيحة. فضلا عن أنه هو الذي حرك هممهم وحث غرائمهم على تعلم الطب كما ذكرنا من قبل، وهو الذي شكل المناخ العام للممارسة الطبية عند المسلمين.
مهما يكن من شيء، فإن المسلمين شعروا بضرورة الاستفادة من علوم وتجارب الأمم السابقة، وكان أول اتصال لهم بمدرسة الإسكندرية القديمة، وكان يمارس فيها الطب اليوناني مختلطا بالطب المصري (24)، وقد أسهمت هذه المدرسة في نقل العلوم اليونانية إلى العرب، وكان لمؤلفات علمائها تأثيرها الملحوظ في دراساتهم الأولى، وفي ماقدمتها كتب طبية ترجمت مبكرا إلى السريانية والعربية. ويذكر ابن النديم أن أول نقل في الإسلام كان في عهد الأمير الأموي خالد بن يزيد، المتوفي سنة 85 هـ الذي ذهب إلى الإسكندرية ليتمكن من علم الكيمياء. وفي عهد عمر بن عبد العزيز المتوفي سنة 101 هـ أسلم طبيب إسكندراني هو ابن أبجر، واعتمد عليه عمر بن عبد العزيز في الطب، ويذكر كذلك أن أول مستشفى إنشيء في الإسلام كان على عهد الوليد بن عبد الملك المتوفي سنة 88 هـ (2).
وكان العصر العباسي نقطة تحول رئيسية في مجال الطب الإسلامي، وبدأ المسلمون سنة 148 هـ، وذلك في عصر المنصور العباسي، الاتصال بمدرسة طبية مشهورة هي مدرسة جنديسابور، (26) وقد أسست في عهد كسرى أنو شروان المتوفي سنة 578 م. ذلك أن المنصور العباسي استدعى أحد أطبائها، وهو جورجيس بن بختيشوع، لمعالجته أن حالة سوء هضم وقد نجح ابن بختيشوع في معالجة الخليفة وكان ها سببا في المكانة التي نالها هو واسرته لدى الخليفة المنصور ومن جاء بعده من الخلفاء، وهكذا انتقلت مدرسة جنديسابور إلى بغداد. واتجه المترجمون آنذاك إلى ترجمة الكتب الطبية اليونانية إلى السريانية ومن هذه الأخيرة إلي العربية، وكان في مقدمة المترجمين جورجيس بن بختيشوع وحفيده جربل وأبو يحي البطريق ويوحنا بن ماسويه. ثم بدأت الترجمة من اليونانية رأسا بعد إرسال بعوث من حلفاء بني العباس إلى مواطن المخطوطات الطبية، وأجزل خلفاء بني العباس للمترجمين العطاء، وكان من أبرزهم حنين بن إسحق المتوفي سنة 877 م، وكون له مدرسة طبية مشهورة من أبرز رجالها ابنه إسحق، وابن اخته حبيش بن الأعثم، واصطفان بن باسيل. (27)
وكان الطب اليوناني هو الأساس الذي بنى عليه أطباء الإسلام علم الطب، واعتمدوا فيه على كل من أبقراط وجالينوس وكان من مميزات الطب اليوناني- من ناحية المنهج- توخى البحث عن العلل الطبيعية للأمراض، وأدى هذا اليونانيين إلي دراسة أعضاء الجسم ووظائفها. ويرى بعض الباحثين في الغرب أن الطب ارتفع على أيدي اليونان إلى مستوى لم يتجاوزه الطب في أيامنا هذه إلا في الجزيئات والمعلومات الخاصه (28).
وبلغ إعجاب المسلمين بأبقراط أحيانا إلى أنهم قالوا إنه مؤيد بتأييد إلهي (29)، خصوصا وأنه كما يقول سارتون ارتفع بمهنة الطب في جانبها الأخلاقي حين حدد التزامات الطبيب وآدابه.
ولم ينظر المسلمون إلى اعتماد أطباء الإسلام على الطب اليوناني في أول عهدهم بالاشتغال به، أو بعد ذلك، على أنه مخالف للدين، بل على العكس من ذلك رأوا أنه من الطبيعي أن يأخذ اللاحق عن السابق حتى لو كان السابق مخالفا لملة الإسلام، وقد بين لنا ابن رشد ذلك قائلا: "فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن الالة (السكين) التي تصح بها التذكية (الذبح الشرعي) ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعنى بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام (يشير هنا إلى فلاسفة اليونان). اذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص (يشيرهنا إلى المنطق)، فانه ينبغي ان نضرب بأيديناالى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه ". (30)
لقد كان ابن رشد في ذلك يعبر"عن روح الحضارة الإسلامية، فقد حث الاسلام المسلمين كما رأينا على اكتساب العلوم الدنيوية وتطويرها، والاستفادة في هذا السبيل بتجارب الأمم السابقة وعلومها. وقد نبه ابن رشد إلى ضرورة النظرة المستقلة للتراث المنقول، وضرورة التمييز دائما بين ما هو صواب وما هو خطأ.
(2) وهذا هو ما فعله أطباء الإسلام بعد نقل علوم الطب إليهم، فلم يعودا أتباعا لجالينوس وأبقراط، بل أخذوا في نقد التراث الطبي اليوناني، وأضافوا إليه جديدا، وكانت هذه هي مهمة أعلام الطب الذين ظهروا بعد حركة النقل. وكان أول مؤلف لأول عمل طبي إسلامي على بن ربن الطبري مؤلف كتاب "فردوس الحكمة"، وقد ألفه سنة 236 هـ. وكان لهذا الكتاب قيمته في مجال علم الأمراض والصيدلة والحمية ، وكان الطبري أستاذا لطبيب عظيم من أطباء الاسلام هو أبو كبر بن زكريا الرازي ويعد أعظم اطباء العصور الوسطى من حيث عنايته بالطب الإكلينيكي، وكان أثره هو وابن سينا ضخما سواء في الشرق أو الغرب، ومن هنا أطلق عليه: جالينوس العرب، وهو مؤلف كتاب "الحاوي ". وقد رأس المستشفى الذي كان بمدينة الري، ثم المستشفى الذي كان ببغداد. وعرف عن الرازي مهارته الفائقة في تقدير سير المرصد وتحليل أعراضه وطريقة علاجه وشفائه (31). بل إنه كان خبيرا بالعلاج النفسي كذلك. وقد أسهم الرازي في ميدان الطب بحوالي ستة وخمسين مصنفا كما يذكر البيروني. وكان أول من ميز بين أمراض عديدة، وكذلك أول من كتب رسالة عن الجدري وكيفية علاجه، وفرق بينه وبين الحصبة، وله كشوفات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
وكان أبرز طبيب بعد الرازي على بن عباس المجوسي المعروف عند اللاتينيين باسم HALY ABBAS والمتوفي سنة 385 هـ تقريبا، ولمؤلفاته شهرة كبيرة، ومن أبرزها "كامل الصناعة"، وهو يتميز في مؤلفه هذا ينزعة نقدية واضحة لأطباء اليونان والمسلمين الذين سبقوه، وهو ينظر إليه على أنه حجة في الطب الإسلامي ومن ذوي المهارة في علاج أمراض مختلفة.
ظل على بن عباس المجوسي حجة الطب حتى جاء ابن سينا المتوفي سنة 428 هـ، والذي يعتبرأكبرأطباء الإسلام بلا منازع حتى أطلق عليه في الغرب لقب "أمير الأطباء"، ومن غريب أنه لأ يزال يسيطر على دراسات الطب في الشرق حتى يومناهذا (32).
وكان ابن سينا إلى جانب علمه بالطب حجة في الفلسفة، فهو من أكبر فلاسفة الإسلام والغرب على السواء، حتى أن مؤرخي الفلسفة في العصر الوسيط في أوروبا كانوا يصنفون الفلاسفة الأوروبيين فيقال: فلاسفة سينويون وفلاسفة رشديون. (32)
ولعل علم ابن سينا بالفلسفة هو الذي جعل منه طبيبا عظيما، فقد مكنته قدراته العقلية من أن ينظر في مجال الطب النظرة الكلية الشاملة، فيضع بذلك النظريات الطبية في صورة متكاملة. وقد خلف ابن سينا عددا من المؤلفات الطبية باللغة العربية وقليل منها باللغة الفارسية، ومنها رسائل تتناول أمراضا معينة، وأعظم مؤلفاته الطبية "القانون ". وكان ابن سينا كطبيب يتميز ببصيرة إكلينيكية في الطب، كما برع في وصف الأدولة والأمراض، كما في مرض التهاب السحايا مثلا، كما أن علمه بالفلسفة وما تشتمل عليه من دراسات للنفس الإنسانية جعله يتفوق في مجال الطب النفسي الجسمي، ويدرك العلاقة بين الوظائف النفسية والوظائف الجسمية. (34).
وقدر لابن سينا أن يرتفع بالطب الإسلامي إلى الذروة، كما قدر لكتابه القانون أن يصبح المرجع الأساسي للدارسين من بعده، وحول ذلك يقول الدكتور سيد حسين نصر: "بلغ الطب الإسلامي مع الرازي وابن سينا الذروة، وأصبح مرتبطا بكتابات هذين الرجلين في صورته المحددة التي أصبح على الأجيال التالية من طلاب الطب وممارسيه أن يأخذوا بها. وأصبح على طالب الطب أن يبدأ دراساته الرسمية ب "حكم " أبقراط و "مسائل " حنين بن إسحق، و "مرشد" الرازي، ثم يمضي إلى "ذخيرة" ثابت بن قرة، وكتاب "المنصوري " للرازي، ثم يضطلع بعد ذلك بدراسة الرسائل الست عشر لجالينوس، و "الحاوي " اللرازي)، و "القانون " (لابن سينا). وقد أصبح قانون ابن سينا بهذا المصدر الرئيسي لمهنة الطب، وأصبحت دراسته وفهمه الهدف الذي يوجه إليه كل ما اشتملت عليه مناهج الدراسة الطبية. وعلى الرغم من ظهور كثير من الموسوعات الطبية الهامة في قرون لاحقة باللغتين العربية والفارسية، فقد ظل "القانون " محتفظا بمكانته الرفيعة" (35)
استمرت حركة الطب في ازدهار بعد ابن سينا والرازي في كثير من أقطار العالم الإسلامي كمصر وسوريا، والمغرب والأندلس، وفارس وغيرها من الأقطار الشرقية.
ففي مصر كان بلاط الحاكم مسرح نشاط الطبيب الخازن طبيب العيون المعروف، وفي القرن الخامس الهجري كان هناك على بن رضوان المعروف عند اللاتينيين والذي كتب شروحا على أعمال جالينوس، وكانت مستشفيات مصر ومكتباتها تجذب الأطباء من أقطار أخرى. وبعد قرنين تقريبا وفد إلى مصر الطبيب الدمشقي المعروف ابن النفيس ليقيم بها، وقد توفي سنة 687 هـ، وترجع أهمية ابن النفيس في الطب إلى أنه كشف عن الدورة الدموية الصغرى وكان من المعتقد إلى عهد قريب أن الذي اكتشفها ميشيل سرفيتوس وكان ابن النفيس أيضا ممن نقدوا أعمال جالينوس في التشريح، وكذلك أعمال ابن سينا في كتابه "شرح تشريح القانون".
ومن الأطباء الموسوعيين المتأخرين الذين ظهروا في مصر داود الأنطاكي المتوفي سنة 1101 هـ 1599 م صاحب "التذكرة"، وهي موسوعة تصور مدى ما وصل إليه الطب عند المسلمين حتى القرن السادس عشر الميلادي.
ونبغ كثير من الأطباء في الأندلس والمغرب، ومن أبرزهم أبو القاسم الزهراوي المعروف عند اللاتينيين وكان أعظم شخصية في طب الجراحة عند المسلمين، وهو مؤلف "التصريف لمن عجز عن التأليف "، توفي حوالي سنة 453هـ وابن زهر أبو مروان بن عبد الملك المتوفي في إشبيلية حوالي سنة 557هـ وخلف عدة مصنفات طبية من أهمها "التيسير في المداواة والتدبير"، وهو من أعظم أطباء الأندلس، ويعد الثاني بعد الرازي في الطب الإكلينكي.
وكذلك كان الفيلسوف ابن رشد المتوفي سنة 595 هـ طبيبا بارزا، وألف موسوعة في الطب تعرف ب "الكليات " وكذلك برز من فلاسفة اليهود في الطب ابن ميمون.
(3) والآن بعد أن بينا كيف ازدهر الطب عند المسلمين، وما هي الأسباب التي أدت إلى ازدهاره، ننتقل إلي الحديث عن علاقة الطب بالفلسفة، والكليات الفلسفية التي قامت على أساسها النظرية الطبية الإسلامية:
لما نقلت الفلسفة اليونانية إلى المسلمين تأثر فلاسفة الإسلام وعلماؤه بقسمة أرسطو للفلسفة إلى: نظرية، وتشمل العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي ، وعملية وتشمل الأخلاق وتدبير المنزل وتدبير الدولة. (37) ومنذ أرسطو أصبحت العلوم الطبيعية على اختلافها مندرجة تحت الفلسفة، وظلت كذلك إلى بدء انفصال العلوم عن الفلسفة في أوروبا تدريجيا منذ عصر النهضة حتى القرن الماضي.
ونظر فلاسفة الإسلام- متابعين في ذلك أرسطو- إلى العلم الطبيعي على أنه العلم المتعلق بالمادة أو الأجسام، ومن بينها الأجسام الحية، لأن الجسم الحي موجود متحرك بالنمو والنقصان (38". ومن ثم اعتبر الطب الذي يبحث في صحة الجسم الإنساني ومرضه فرعا من فروع العلم الطبيعي الذي هو بدوره فرع من فروع الفلسفة، ويعرف ابن خلدون علم الطب قائلا: "ومن فروع الطبيعيات صناعة الطب، وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح، فيحاول صاحبها ضغط الصحة وبرء المرض بالأدوية والأغذية (39) "
واعتمد أطباء الإسلام على نظرية أبقراط في الأخلاط والأمزجة، وهي ترتبط بنظرية يونانية طبيعية هي نظرية العناصر الأربعة التي ترجع إلى الفيلسوف أنباذوقليس، الذي يرى أن العالم يتألف من النار والهواء والماء والتراب، وكان هو نفسه طبيبا ومؤسسا لمدرسة صقلية الطبية "40". كما نجد عند متأخري الفيتاغوريين النظرية الأنباذوقلية في العناصر الأربعة مرتبطة بالأضرار وهي: الحار والبارد، والرطب واليابس. (41)
وقد لخص أحد أطباء الإسلام وهو الأزرقي هذه الكليات الفلسفية فقال عن ارتباط الأخلاط (42)، وهي أربعة، بالعناصر الأربعة، فقال: "الأول خلط الصفراء، وهو حار يابسا، أصله متولد من عنصر النار الطبيعي، ومسكنه في الانسان المرارة، والثاني خلط الدم، وهو حار رطب متولد من عنصر الهواء الطبيعي، ومسكنه في الإنسان الكبد ، والثالث خلط البلغم، وهو بارد رطب متولد من عنصر الماء، ومسكنه من الإنسان الرئة ، والرابع خلط السوداء، وهو . بارد يابس أصله متولد من عنصر الأرض، ومسكنه من الإنسان الطحال) .
ويرتبط بالأخلاط امزجة معينة، وكل مزاج منها له طبيعتان: فالصفراوي كما رأينا حار جاف، والدموي حار رطب، والبلغمي بارد رطب، والسوداوي بارد جاف. وترتبط الأخلاط أيضا الحالات النفسية للانسان، ويقول الأزرقي حول هذا: "فالسرور من الدم، والحرارة من الصفراء، والخوف للسوداء، والحزن للبلغم، فهذه الأخلاط الأربعة بها قوام البدن، ومنها صلاحه، ومنها فساده "
وذهب أطباء الإسلام إلى أن المرض ينشأ عن فساد الأخلاط إما بالنقص أو الزيادة، أو بفساد طبيعتها، أو عدم نضوجها.
ولما كان كل شيء في عالم الكون والفساد يوجد من إختلاط العناصر الأربعة، فكذلك كل جسم إنساني له تكوينه المزاجي الذي يتولد عن الأخلاط الأربعة.
واعتقد أطباء الإسلام أن في مقدور الجسم ضغط التوازن بين الأخلاط، وهذا الذي يميز حالة الصحة. وليست وظيفة الطب في رأيهم أكثر من تقديم العون على تحقيق ذلك المتوازن في حالة اختلاله ليعمل الجسم بصورة سليمة، وما الأغذية والأدوية ايضا إلا عوامل مساعدة لقدرة البدن الطبيعية على الحياة. ولكل مرض عندهم أدوية، وللأدوية والأغذية أيضا أمزجة فمنها الحار ومنها البارد، والهدف عند الطبيب هو أن يعين طبيعة المريض ذاتها (45) ومن هنا تبع علم الصيدلة الإسلامي نظرية الأخلاط والأمزجة، وكذلك ارتباط نظام الحمية (تنظيم الغذاء) بتلك النظرية ارتباط وثيقا.
وينظر الطب في رأي ابن سينا إلى جسم الإنسان من عدة وجوه (46)، فهو ينظر إلى الجسم من حيث العناصر التي يتألف منها، وينظر إليه من حيث التشريح، ومن حيث وظائف اعضائه، ومن حيث الصحة والمرض، ومن حيث الاطعمة والأشربة والحمية، ومن حيث الأدوية. وهو يرى أن ثمة عوامل تؤثر في عملية التوازن الخاصة بأخلاط الجسم، وقد يرجع اختلاف الأمزجة إلى اختلاف الأجناس البشرية، أو إلى البيئة أو المناخ أو السن أو الذكورة أو الأنوثة، وعلى الطبيب أن يضع في اعتباره هذه الأختلافات التي تعد عوامل خارجية (47)
وإذا أردنا أن نلخص- من ناحية المنهج العلمي في البحث- ما تميز به أطباء الإسلام قلنا إنهم، في نظرتهم إلى الإنسان، كانوا يرون أنه مؤلف من بدن وروح، وليس من بدن مساري فقط، كما نظروا إليه على أنه كل لا على أنه مجرد أجزاء لا علاقة بينها في حالي المرض والصحة، كما كانوا داعين دائما إلي أن كل إنسان له شخصيته المتميزة أو المتفردة، كما نظروا إليه من حيث ارتباطه بالكون او الطبيعة، ومن حيث ارتباطه بالبيئة التي يعيش فيها، كما أنهم نبهوا إلى الفروق الفردية بين إنسان وانسان، وإلى التغيير المستمر في حالة الجسم، أو على حد تعبير داود الأنطاكي "عدم بقاء المركب على حالة واحدة" (8،)، وهذه كلها في رأينا من القواعد المنهجية الجديرة بالاعتبار، فهي تدل على علمية النظرة، والمهم في العلم هو صحة المنهج لا النتائج، لأن النتائج الصحيحة لا بد آتية مع استخدام المنهج الصحيح، ومن المعروف أن نتائج العلم تكون في وقت ما احتمالية إلى أن يثبت خطؤها فيتجاوزها العلماء إلى غيرها وهكذا.
ومما يستوقف النظر بعد هذا إعلاء المسلمين من شأن علم الطب، حتى أن داود الأنطاكي ليذهب في مقدمة كتابه "التذكرة" إلى حد القول بأنه ليس هناك علم من العلوم يستغنى عن علم الطب أصلا، لأن اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل (49). وهذا الرأي إن دل على شيء فإنما يدل على أن أطباء الإسلام كانوا واثقين بعلمهم ثقة لا حد لها، مدركين لأهميته في حياة الإنسان.
4) وكان أطباء الإسلام إلى جانب ما تقدم حريصين كل الحرص على تأصيل أخلاقيات معنية استمدوها من الإسلام لعلم الطب وممارسته، فيقول الأنطاكي عن أخلاقيات الطبيب وقيمه: "فإذا لم يكن العارف به (أي بعلم الطب) أمينا متصفا بالنواميس الإلهية، حاكما على عقله، قاهرا لشهوات نفسه، أنفذ أغراض هواه، وبلغ من عدوه مناه، ومتى كان عاقلا وله ذلك على أن الانتصار للنفس من الشهوات البهيمية، والصبر والتفويض للمبدع الأول (الله) من الأخلاق الحكيمة النبوية" (15)
ومن أبرز ما يميز أطباء الإسلام خلق التواضع، فلم يدعوا لأنفسهم معرفة كل مرض وعلاجه وشفائه، ولا أن بإمكانهم أن يدفعوا الموت عن الناس، أو يطيلوا في أعمارهم: "فالموت متحتم، لكن الطبيب يعالج من علل العمر، قال حكيم (أي طبيب): الموت قائم بالأجساد بالذات، وإنما الطب تحسين أيام المهلة (أي العمر) فالطب يحفظ صحة الصحيح، ويردها بقدر الإمكان على العليل " (1)، ويقول الأزرقي: "إعلم أن الطبيب الحكيم الماهر ليس يشترط عليه أن يبرىء العليل، فضلا عن أن يزيد في العمر، ولكن عليه أن ينظر في العلة" (52)
بل إن بعض الأطباء من المسلمين ردوا على بعض أولئك الذين لا يؤمنون بالطب والعلاج ردودا لا تخلو من طرافة، فقال الأزرقي إن الطبيب نفسه معرض للمرض، إذ للمرض أسباب معينة قد لا يعلم بها الطبيب نفسه، وقد يعلمها ويغفل عنها أو لا يحتاط لنفسه منها أحيانا، أما من يقول: كم قد مرضت ثم برئت من غير دواء فهو جاهل، لأنه لو استطب لكان ذلك أسرع إلي شفائه، لأن الطبيب يعين قوى الجسم على دفع المرض، وهذه القوى هي الدافعة. (51)
ومن تقاليد الممارسة الطبية في الإسلام والتي ترجع إلى شواهد من النصوص الدينية نفسها ما بينه لنا الذهبي وهو من كبار فقهاء الإسلام من جواز مداواة النساء للرجال استنادا إلى مداواة أم عطية وأم سليم للمرضى في غزوات النبي في) صلي الله عليه وسلم كما نص الإمام أحد بن حنبل أن الطبب يجوز له أن يظر من المرأة الأجنبية إلى ما تدعو اليه الحاجة وإلى العودة وكذلك يجوز للمرأة أن تنظر الى عورة الرجل عند الحاجة وهي حالة المرض إذا لم يوجد رجل أو محرم. بل أجاز الأطباء من المسلمين استنادا إلى نصوص الدين جواز شرب المرأة دواء ليقطع الحيض إذا كان دواء يؤمن ضرره إذا لم يكن لها زوج، فإن كان لها زوج وقفت على إذنه. (54).
وبمثل هذه الأخلاقيات وتقاليد الممارسة الطبية، وبالروح العلمية الموضوعية التي تميز بها علم الطب الأسلامي، وبالجهود العلمية والكشوفات الرائدة في ميدانه، حظي علم الطب الإسلامي باحترام كبير في الغرب المسيحي منذ العصور الوسطى حتى مطالع العصر الحديث، وهذا ما سنشير إليه إجمالا فيما يلى:
(5) كان للفلسفة الاسلامية، بما اشتملت عليه من العلوم (ومنها علم الطب)، أثر كبير على الحضارة الأوروبية في العصر الوسيط، وقد بين الأستاذ إتيين جيلسون أكبر أساتذة فلسفة العصر الإسلامي الوسيط في عصرنا ان أوروبا كانت في القرن الثالث عشر الميلادي تتطلع الى الفكر الاسلامي تريد أن تأخذ عنه وتفيد منه، وأنه كان لما نقل من الكتب العربية واليونانية إلى اللاتينية أثر قوي في وجود نشاط فكري هائل في أوروبا وظهور الجامعات (55).
وقد بدأت ترجمة الكتب الطبية من العربية إلى اللاتينية منذ القرن الحادي عشر الميلادي على يد رهبان مونتي كاسيني، وكانوا في هذا قدوة لمترجمي القرنين التاليين (56). وترجم قسطنطين الإفريقي المتوفي سنة 1087 م، وهو من أصل عربي، كتاب "الفصول " لأبقراط مع شرح جالينوس، وكتابين لجالينوس نفسه (57)، كما ترجم عددا من المخطوصإت الطبية العربية منها كتاب "كامل الصناعة" لعلي بن عباس في دير بسالرنو بإيطاليا، فكانت جهوده نواة لنشأة مدرسة سالرنو الطبية.
وترجم جيرارد الكريموني المتوفي سنة 1187 م كتاب "القانون " لابن سينا، وهو أكبر كتاب عرفته أوروبا في العصر الوسيط، ونشرت له ثلاثون طبعة مبنية على الترجمة اللاتينية في غرب أوروبا (8)، وترجم "المنصوري " للرازي، وكان للمجلد التاسع منه تأثير عظيم في أوروبا اللاتينية، فكان يدرس في العصور الوسطى، وهو يحتوي على وصف دقيق لجميع أعضاء الجسم، وكانوا يسمون في أوروبا Nonus Almansori واستمر يدرس بانتظام في جامعة توبخبن إلى أواخر القرن الخامس عشر . وترجم جيرارد الكريموني أيضا كتاب "التصريف " لأبي القاسم الزهراوي، والزهراوي هو الذي أرسى قواعد الجراحة العربية في أوروبا العصور الوسطى.
ومن الكتب الطبية التي ترجمت إلى اللاتينية كتاب "الحاوي " للرازي سنة 1486 م، وكان أحد الكتب التسعة التي تكونت منها مدرسة الطب في باريس بأكملها في القرن الرابع عشر، وكان مصدرا للعلوم الطبية وخاصة في العلاج الى مابعد عصر النهضة بزمن طويل (59). ونشر كوينخ الجزء الأول منه وهو خاص بالتشريح مع ترجمة فرنسية تحت عنوان: Trois traites d' Anatomie Arabe ، وذلك في ليدن سنة 1953، وترجم برونر القسم الخاص منه بالرمد، ونال به درجة الدكتوراه من برلين سنة 1900 م.
ومما ترجم أيضا إلي اللاتينية من مؤلفات أطباء المسلمين رسالة الرازي عن الجدري والحصبة، ترجمها فالا Valla ونشرها في البندقية عام 1498 م، ونقلت إلى اليونانية عام 548ام، كما ترجمت إلى اللغات الفرنسية والألمانية والانجليزية.
وترجم طبيب إيطالي يدعى ألباجو "شرح تشريح القانون " لابن النفيس إلى اللاتينية في البندقية لأول مرة سنة 547 ام، ومن المعتقد أن يكون هارفي وقد اطلع عليه.
والمتتبع لتاريخ المدارس الطبية الأوروبية في مونبلييه ونابولي وبولونيا وبادوا وإكسفورد وكمبردج يدرك بوضوح أنها قامت أساسا على دراسة الكتب الطبية العربية المترجمة إلى اللاتينية، وظل الأمر كذلك إلى حوالي القرن السادس عشر الميلادي، بل ظل كتاب "القانون " لابن سينا يدرس في جامعتي مونبلييه ولوقان إلي القرن السابع عشر الملادي- وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى غزارة العطاء الذي أعطاه أطباء الإسلام لأوروبا على مدى عدة قرون، ومشاركتهم في دفع عجلة التقدم للحضارة الإنسانية.
ا لمرا جع
(1) Nutting (A): The Arabs, Mentor Books, New york , 1965, p. 127
(2) الأزرقي: تسهيل المنافع، القاهرة 1349 هـ، ص 7.
(3) الذهبي: الطب النبوي، بهامش تسهيل المنافع، القاهرة 1349 هـ، ص 100
(4) صحيح البخاري، ح2، ص 94 وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، ح7، ص 200
(5) محمد كرد علي: الإدارة الإسلامية، القاهرة 1934، ص 21- 22.
(6) تسهيل المنافع، ص 7
71) نفس المرجع، ص 8
(8) النساء:102
(9 ) النساء:71
(10) الطب النبوي، 103- 104
(11) نفس المرجع، ص 101.
(12) نفس المرجع، ص 107
(13) طبقات الأمم، البخف 1967، ص 63.
(14) الطب النبوي، ص 107
(15) نفس المرجع، ص 102
(16) تسهيل المنافع، ص 2.
(17) الجائية، 13
(18)1لنحل:12
(19) فصلت:53
(20) الذاريات: 21.
(21) آل عمران: 159
(22) التفسير الكبير، ح3، ص 83، وانظر ايضا الاحكام للآمدي، ح4، ص 23، ونيل الأوكار للشوكاني، ح7، ص 188- 189.
(23) مقدمة ابن خلدون، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 346.
(4 2) Nasr (Seyyed Hossein): Science and civilization in Islam, Harvard University press, Cambridge < massachusetts, 1968 , p. 191
(25) توفيق الطويل (الدكتور): لقطات علمية من تاريخ الطب الغربي، مجلة عالم الفكر الكويتية، مجلده، عددا، ص 62.
(6 2) Science and civilization in Islam, p.193
(27) نسبت إليه اول ترجمة لكتب ديسقوريدس في الاقراباذين، وكتب أوريباسيوس الذي أذاع علوم جالينوس
(28) الدومييلي: العلم عند العرب، ترجمة عبد الحليم البخار، القاهرة 1962 م، ص 51- 52
(29) لقطات علمية من تاريخ الطب العربي، ص 264
(35) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، القاهرة 1328 هـ، ص 4- ه.
(31) Science and civilization in Islam, p.207
(32) Ibid, p.209
(33) Gilson (E) La Philosophie au moyen age , Paris 1952 p.347-348
(34) انظر: القانون، طبعة بولاق 1294 هـ، مجلد ا، ص 94- 95.
(30) Science and civilization in Islam, p.211-212
(36). Elgood (C.E.) A Medical History of persia and the eastern California, Cambridge 1951, p.336
(37) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، القاهرة 1946 م، ص 18 1.
(38) نفس المرجع، ص 134.
(39) المقدمة، ص 345.
(40) Burnet (john) Greek Philosophy , Thales to plats, Macmillan
(1 4) New york , 1968, p. 57 Ibed , p.71
(42) الأخلاط أشبه بالسوائل، وقد عرف ابن سينا الخلط بأنه جسم رطب سيال يستحيل إليه الغذاء أولا قبل أن يتمثله البدن، القانون، مجلد 1، ص 13.
(43) تسهيل المنافع، ص 3، وانظر أيضا تذكرة داود، القاهرة 1926 م، ص 9 وما بعدها.
(44) تسهيل المنافع، ص 3- 4. (45) مقدمة ابن خلدون، ص 345.
(46) Shah: the Constituation of Medicine in " theories and Philophies of Medicine" Delhi: Institute of Medicine and medical reaserch, 1962, p.97
(47) عرض ابن سينا لهذا في الكتاب الأول من القانون
(48) التذ كرة، ص 7
(49) نفس المرجع، ص 7.
(50) التذكرة، ص 4، ص 8
(51) الطب النبوي، ص 101.
(52) تسهيل المنافع، ص 6
(53) تسهيل المنافع، ص 7- 8.
(54) الطب النبوي، ص 112- 113
(5 5) La philosophie au moyen age , p.237 et suiv, p391 et suiv.
(56) يوسف كرم: الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، القاهرة 1946، ص 80
(57) نفس المرجع، ص 93- 94.
(58) نفس المرجع، ص 97.
(59) الطب العربي وتأثيره في مدنية أوروبا، ص 21
تعليقات
إرسال تعليق