ما نريده .. و ما يراد لنا - كلمات رائعة للشيخ الغزالي رحمه الله ..
أنا و أنت و غيرنا من الناس نشترك في سباق طويل، سباق قد يستغرق العمر كله، نعرف بعده من المخطئ و من المصيب؟ من المصلح و من المفسد؟ من المتقدم و من المتأخر؟ أو يتكشف فيه السر المطويّ في قوله تعالي ((... خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ...)).
و بديهي أن يبذل العاقل قواه كلها للفوز في هذا السباق، لكن هناك أشياء لا يكترث بها، أو هي ليست في نطاق ارادته لو اكترث بها تتصل بمكان السباق و زمانه و طبائع المشتركين فيه و أعدادهم .. الخ.
ما يدخل في ارادتي أحتشد له، و ما لا يتعلق بي أتجاوزه!!.
من أجل ذلك رفضت الاجابة علي سؤال وُجه اليّ خلاصته: لو خيرت قبل المجئ الي الدنيا في العصر الذي تختاره لتحيا فيه، فأي عصر كنت تفضل..؟
قلت للسائل: ان ايماني بربي، و ثقتي في حسن اختياره لي يجعلاني لا أختار ال ما اختاره سبحانه و تعالي، فلا أحب أن أتقدم برغبة تخالف ما و قع لي! أنا راض بهذا العصر الذي شاء ربي ايجادي فيه!
قال: حسبناك ستطلب الوجود في عصر الصحابة! قلت: ان الصحابة خيرة القرون و هم سلفنا الصالح، و مع ذلك فان النبي عليه الصلاة و السلام ودَّ لو يري اخوانه! فلما قال له الصحابة: ألسنا باخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، و اخواني الذين يجيئون بعدي، آمنوا بي و لم يروني..!!
و الذين يؤمنون بالاسلام و نبيه في هذا العصر المعنت و يحافظون علي شعائر الدين ضد هجوم الانس و الجن، لهم عند الله مكانة صالحة. و قد يشاركون بعض الأصحاب في الفضل.. ان الغربة التي يعانيها محبو الله و رسوله لها عند الله ثواب ضخم! و من العبث التطلع الي الوجود في عصر الصحابة، و لكن الرجولة و الحزم استغلال الواقع المتاح في ادراك منزلة حسنة عند الله سبحانه و تعالي.
قال صاحبي: هل المسافة بعيدة بين ما نريده، و ما يراد لنا؟ أو بين قدر الله و رغبات البشر؟
قلت: لا أسوق اجابة محددة، و أكتفي بنماذج مما قصه علينا في الكتاب العزيز..
عندما كنت أتلو سورة الأنفال، و أتتبع معركة بدر، قلت لمن حولي: نحمد الله لأن قافلة قريش نجت و فر بها أبو سفيان!
فسألني سائل: لماذا؟ و قد كان الصحابة يتمنون الاستيلاء عليها، و هم علي أية حال أولي بها من مشركي مكة؟
قلت: لو وقعت بين أيديهم و دار القتال من أجلها لقال المستشرقون: جهاد لطلب المال، و حب الدنيا! و من أجل القافلة خرجوا و في سبيلها ماتوا.. و سينسي المرجفون و الأفاكون خمس عشرة سنة انقضت في كفاح مرير و تضحية موصولة، قبل معركة بدر! فشاء الله أن تسير الأمور ضد رغبة الأصحاب، و أن تخلص القافلة لعبدة الأوثان، و أن يتجرد الكفاح لنصرة الحق و طلب الآخرة. و في هذا يقول الله سبحانه و تعالي (( و اذ يعدكم الله احدي الطائفتين أنها لكم و تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم و يريد الله أن يحق الحق بكلماته و يقطع دابر الكافرين)).
وهكذا أراد الله أن يدور القتال لا تشوبه شائبة، بين توحيد يرجو الله و اليوم الآخر، ووثنية لا ترجو لله وقاراً، و لا تنشد عنده ثواباً، فماذا كانت النتيجة؟ كسب المسلمون المعركة بشرف باذخ و سطوة اشرأبت لها الأعناق في جزيرة العرب! ثم ماذا؟ لعل أصحاب القافلة باعوا نفائسها لافتداء أسراهم في المدينة الظافرة.. ثم ماذا أيضاً؟ يحكي أبو تمام في حماسته أن أمرأة من مكة سُمع صياحها لأن بعيراً لها انطلق في الصحراء، فقال أحد رجال مكة المكظومين:
أتبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم السهود؟
فلا تبكي علي بكر و لكن علي بدر تقاصرت الجدود!
ألا و قد ساد بعدهم أناس و لولا يوم بدر لم يسودوا!
نعم ان يوم بدر قلب موازين الشرك كلها، و خفض رجالاً و رفع آخرين، فهل علم من يجهل، حكمة الله في تمكين القافلة من الفرار، و عدم تحقيق رجاء المسلمين في الاستحواذ عليها..؟
و مثل آخر نسوقه لما نريده لأنفسنا و ما يريده الله لنا.
دخل يوسف الصديق السجن و هو أبعد الناس عن تهمة، و أحقهم بالتكريم و الاجلال، و انتظر علي مضض أن يخرج من عالم السدود و القيود! و هيهات. ثم عَبَرَ الرؤيا لصاحبيّ السجن، و شعر بأن رؤيا أحدهما تدل علي أن سيكون نديم الملك، فقال له – و هو يتلهف علي الخروج – اذكرني عند ربك. كلمة مفعمة بالأمل من متهم برئ، يطلب العدالة، و هو أحقُّ الناس بأن تعرف حقيقته و تنشر صفحته..
بيد أن النديم المبهور احتوته أضواء القصر، فنسي رفاق السجن، و نسي الرجل الصالح الذي بشره بمستقبله، و ذكره بنفسه، فلم يفعل شيئاً ما لانقاذ يوسف ((فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين))!
و اليوم في السجن، ذاهب في الطول مغرق في الملالة، فكيف ببضع سنين؟
لكن الأمر بالنسبة الي يوسف عليه السلام كان له معني آخر، كانت فترة السجن انضاجاً و اعداداً لمستقبل لا يخطر ببال، كان تهيئة لأرفع المناصب في دين الله و دنيا الناس، كانت جمعاً للنبوة و الملك.
و احتاج الملك و حاشيته الي يوسف في أعقاب رؤيا محيرة، و لكن الرجل الذي كان متلهفاً علي الخروج، ينشد له الوسائل الممكنة تريث هذه المرة، و أخذ يشترط قبل أن يتحرك نحو الحرية! ((و قال الملك أئتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع الي ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهم ان ربي بكيدهن عليم))
يوسف عندما طُلب للملك بعد تلك السنين كان في حال نفسية أخري! لقد بطل سعيه لنفسه، و امتد سكونه لربه، و استكان لقَدرِه الغالب، و استراح لما يقع له في الغد القريب و البعيد، فألهم الله الملك الرؤيا العجيبة، أليس الله سبحانه الذي يتوفي الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها؟ فلم يخرج يوسف من سجنه في عفو عام، كلا.. لقد عرف الجميع براءته و تقواه ووفاءه وشرفه..
و عندما خرج من ضيق السجن كان الطريق ممهداً أمامه ليضع قدمه في أي مكان من أرض الله الواسعة ((و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبَّوأ منها حيث يشاء))
ان ما صنعه الله ليوسف أفضل كثيراً مما صنعه يوسف لنفسه عندما قال لرفيق السجن ((اذكرني عند ربك)) المهم هو التبتل الي الله، و التأميل فيه، و الرضا بقضائه، و ألا تخون الرجل خصائصه الرفيعة في الساعات الحرجة..!!
و ما قصصناه آنفاً توكيد لحقيقة ايمانية تغيب عن بالنا كثيراً.
اننا نثق في أحكامنا و مشاعرنا و قد نظنها عين اليقين و قد تكون عند البحث عين الخطأ، و من هنا نفهم قوله تعالي لرجال قد يكرهون نساءهم و يرخصون عشرتهم و يخططون لمفارقتهن، يقول الله لا تفعلوا، اتهموا هذه العواطف النافرة ((و عاشروهن بالمعروف، فان كرهتموهن فعسي أن تكرهوا شيئاً و يجعل الله فيه خيراً كثيراً))
من يدري قد تنجب من هذه الزوجات أذكي الأولاد، و أكرمهم معدناً، و أنضرهم مستقبلاً.
و يمتد هذا الحكم من ميدان الأسرة الي ساحات الجماعة كلها، فالشعوب عادة تألف حياة السلام، و تؤثر رغد العيش، و تكره سفك الدم، و مغادرة البيوت و الأهل الي ميادين القتال.. لكن ما العمل اذا تعرضت العقيدة للاضهاد، و المقدسات للاهانة، و الكرامات للضياع؟
انه لا مفر عندئذ من الحرب و التعرض لمكارهها، و مهما فدحت الخسائر فالنتائج المخوفة أفضل من النكوص علي العقبين، و ذلك معني قوله تعالي: ((كتب عليكم القتال و هو كره لكم، و عسي أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم، و عسي أن تحبوا شيئاً و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون))
و قد تحولت أمم عن أرضها مخافة الموت فهل نجت منه؟ انها هربت منه في ميدان فوجدته ينتظرها في ميدان آخر، و لو صمدت له في الميدان الأول لقلّت مغارمها و مآسيها في الميدان الآخر. و الي هذا يشير قوله تعالي: ((ألم تر الي الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت ..)) هل نجوا من الموت بالخروج الذليل؟ كلا ((فقال لهم الله: موتوا..)) ثم أحيا الله بقاياهم بعدما تابوا و تشجعوا و كافحوا و بذلوا علي نحو ما حكي القرآن الكريم..
ان الله – لأنه حميد مجيد و لأنه كتب علي نفسه الرحمة – يصنع لعباده ما هو أفضل لهم و أجدي عليهم!
وثقتي في فضله تباركت أسماؤه تجعلني أستكين لأقداره و ان غابت عني حكمتها..
وهناك أمر آخر لا بد من معرفته: ان التفاوت بين المخلوقات، و حظوظها من الفضل الأعلي جزء من النظام الكوني السائد، فالناس ليسوا سواء فيما ينالون من عطاء الله، بل فيما يقدرون عليه بملكاتهم المادية و الأدبيةّ! يوجد امرؤ طاقته أن يحمل علي منكبه ثقلاً، أو يجر وراءه عربة، و يوجد من يطلق الصواريخ و يغزو الفضاء! و القرآن الكريم صريح في وجود هذا التفاوت، و خضوعه لمشيئة الله و حده ((ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم))
و الكواكب في السماء متفاوتة. يقول علماء الفلك: ان الشمس أكبر من القمر نحو ألفي ألف مرة! و الملائكة وهم العباد المكرمون متفاوتون (( .. جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثني و ثلاث و رباع يزيد في الخلق ما يشاء)) و الأنبياء و هم أشرف الناس، و أنفسهم معادن متفاوتون ((تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض، منهم من كلم الله، و رفع بعضهم درجات..))
و الظاهر أن هذا ((البعض)) الذي سما درجات هو محمد بن عبد الله صلي الله عليه و سلم، فهو في قمة الخليقة و علمها المفرد و أشرف من حمل صفة عبد الله!!
و مع أن التفاوت بين الكائنات من شئون الألوهية التي تغيب عنا، الا أننا نلحظ نوعا من الارتباط بين التغير النفسي الحاسم و بين الفضل الالهي المأمول، و لكي يتضح ما نعني نسوق الأمثلة الشارحة:
خاصم الخليل ابراهيم أباه و قومه في الأصنام التي يعبدونها من دون الله، وبدأ الخصام نظرياً في قيمة هذه الآلهة المزعومة، وحاول بالأدلة العقلية و المحاورات المتأنية أن يقنعهم بعبادة الله وحده لكنهم اصروا علي عوجهم.. فكان لزاما علي ابراهيم أن يمضي وحده في طريقه، و أن تتحول مخاصمته لهم الي اعتزال و مقاطعة، و أن يستوحش من الأقارب و الأصحاب ايثاراً للأنس بالله وحده. ثم يشرع بعدئذ في بناء مجتمع مسلم يعتز بالتوحيد، و يخطط له علي وجه الأرض، و يجادل فيه الملوك و غير الملوك! فماذا صنع الله له؟ قال سبحانه: ((فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحاق و يعقوب و كلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا و جعلنا لهم لسان صدق عليا))
انها مكافأة سخية لرجل كان أمة، اعتصم بالله و تحمل في ذاته الكثير.. فجعل الله له ابنه الثاني نبيا – بعد ابنه الأول اسماعيل- ثم زاد بركته فجعل حفيده من اسحق نبيا كذلك .. و ادَّخر في عقب اسماعيل النبوة الخاتمة للرسل أجمعين، ان بركات الله اذا انهمرت لم يقفها شئ، فاللهم أنلنا منها حسنة في الدنيا و الآخرة، فما لنا غني عن بركتك!!
و في قصة أهل الكهف مثل لتنامي رضوان الله الي حدود بعيدة.
ان أولئك الفتية أشبهوا ابراهيم في مخاصمة قومهم عبدة الأصنام، و انك لتري نضارة الفكر المؤمن في مسلكهم العقلي ، الايمان لديهم نزعة تقدمية تحترم الحقيقة و تحتقر الخرافة وتجري وراء الدليل و ترفض التقليد الأعمي! ((هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن))
أي .. هلا أتوا بدليل واضح علي ما يزعمون؟ لكن الباطل لا دليل له، و لا سناد للكذب، و لا اعتراف بأصحابه! ((فمن أظلم ممن افتري علي الله كذبا)).
و جرت سنة الايمان في طريقها، و نفر الشباب المؤمن من مشاركة قومهم في مراسم الوثنية، وقرر الاعتزال و المقاطعة، فكان الجزاء أن خلد الله ذكرهم في قصص خارق ووحي يتلي أبد الدهر ((و اذ اعتزلتموهم و ما يعبدون الا الله فأووا الي الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته و يهيئ لكم من أمركم مرفقا))
الغريب أن هؤلاء الشبان بعد رقدتهم المشهورة التي طالت قرونا استيقظوا و هم يحملون ذات العاطفة الناقمة علي الشرك و أهله، الموقنة بمصيره الحالك، و نلمس ذلك في توصيتهم لرفقيهم الذاهب لشراء بعض الطعام لهم، تلطف حتي لا يحس بك أحد، فان القوم اذا قبضوا علينا أفقدونا ديننا، و هنا الطامة! ((انهم ان يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا اذن أبدا)).
يبدو أن النفس البشرية يتم تجميدها علي ما ماتت عليه، لتبعث به يوم النشور دون زيادة و لا نقصان، سواء ظلت في نومتها الأخيرة ثلاثة قرون أو ثلاثمائة قرن، ان نهاية مشوارها في الحياة تحدد درجاتها في هذا السباق الكبير:
كم مرحلة قطعتها؟
و كم مرحلة يجب أن تقطعها؟
و من الفرق بين الرقمين يعرف الناشط و الكسول و السابق و المسبوق.
المصدر:
محمد الغزالي "ما نريده و ما يراد لنا". الحق المر- الطبعة الثالثة. دار الشروق: 1993
و بديهي أن يبذل العاقل قواه كلها للفوز في هذا السباق، لكن هناك أشياء لا يكترث بها، أو هي ليست في نطاق ارادته لو اكترث بها تتصل بمكان السباق و زمانه و طبائع المشتركين فيه و أعدادهم .. الخ.
ما يدخل في ارادتي أحتشد له، و ما لا يتعلق بي أتجاوزه!!.
من أجل ذلك رفضت الاجابة علي سؤال وُجه اليّ خلاصته: لو خيرت قبل المجئ الي الدنيا في العصر الذي تختاره لتحيا فيه، فأي عصر كنت تفضل..؟
قلت للسائل: ان ايماني بربي، و ثقتي في حسن اختياره لي يجعلاني لا أختار ال ما اختاره سبحانه و تعالي، فلا أحب أن أتقدم برغبة تخالف ما و قع لي! أنا راض بهذا العصر الذي شاء ربي ايجادي فيه!
قال: حسبناك ستطلب الوجود في عصر الصحابة! قلت: ان الصحابة خيرة القرون و هم سلفنا الصالح، و مع ذلك فان النبي عليه الصلاة و السلام ودَّ لو يري اخوانه! فلما قال له الصحابة: ألسنا باخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، و اخواني الذين يجيئون بعدي، آمنوا بي و لم يروني..!!
و الذين يؤمنون بالاسلام و نبيه في هذا العصر المعنت و يحافظون علي شعائر الدين ضد هجوم الانس و الجن، لهم عند الله مكانة صالحة. و قد يشاركون بعض الأصحاب في الفضل.. ان الغربة التي يعانيها محبو الله و رسوله لها عند الله ثواب ضخم! و من العبث التطلع الي الوجود في عصر الصحابة، و لكن الرجولة و الحزم استغلال الواقع المتاح في ادراك منزلة حسنة عند الله سبحانه و تعالي.
قال صاحبي: هل المسافة بعيدة بين ما نريده، و ما يراد لنا؟ أو بين قدر الله و رغبات البشر؟
قلت: لا أسوق اجابة محددة، و أكتفي بنماذج مما قصه علينا في الكتاب العزيز..
عندما كنت أتلو سورة الأنفال، و أتتبع معركة بدر، قلت لمن حولي: نحمد الله لأن قافلة قريش نجت و فر بها أبو سفيان!
فسألني سائل: لماذا؟ و قد كان الصحابة يتمنون الاستيلاء عليها، و هم علي أية حال أولي بها من مشركي مكة؟
قلت: لو وقعت بين أيديهم و دار القتال من أجلها لقال المستشرقون: جهاد لطلب المال، و حب الدنيا! و من أجل القافلة خرجوا و في سبيلها ماتوا.. و سينسي المرجفون و الأفاكون خمس عشرة سنة انقضت في كفاح مرير و تضحية موصولة، قبل معركة بدر! فشاء الله أن تسير الأمور ضد رغبة الأصحاب، و أن تخلص القافلة لعبدة الأوثان، و أن يتجرد الكفاح لنصرة الحق و طلب الآخرة. و في هذا يقول الله سبحانه و تعالي (( و اذ يعدكم الله احدي الطائفتين أنها لكم و تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم و يريد الله أن يحق الحق بكلماته و يقطع دابر الكافرين)).
وهكذا أراد الله أن يدور القتال لا تشوبه شائبة، بين توحيد يرجو الله و اليوم الآخر، ووثنية لا ترجو لله وقاراً، و لا تنشد عنده ثواباً، فماذا كانت النتيجة؟ كسب المسلمون المعركة بشرف باذخ و سطوة اشرأبت لها الأعناق في جزيرة العرب! ثم ماذا؟ لعل أصحاب القافلة باعوا نفائسها لافتداء أسراهم في المدينة الظافرة.. ثم ماذا أيضاً؟ يحكي أبو تمام في حماسته أن أمرأة من مكة سُمع صياحها لأن بعيراً لها انطلق في الصحراء، فقال أحد رجال مكة المكظومين:
أتبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم السهود؟
فلا تبكي علي بكر و لكن علي بدر تقاصرت الجدود!
ألا و قد ساد بعدهم أناس و لولا يوم بدر لم يسودوا!
نعم ان يوم بدر قلب موازين الشرك كلها، و خفض رجالاً و رفع آخرين، فهل علم من يجهل، حكمة الله في تمكين القافلة من الفرار، و عدم تحقيق رجاء المسلمين في الاستحواذ عليها..؟
و مثل آخر نسوقه لما نريده لأنفسنا و ما يريده الله لنا.
دخل يوسف الصديق السجن و هو أبعد الناس عن تهمة، و أحقهم بالتكريم و الاجلال، و انتظر علي مضض أن يخرج من عالم السدود و القيود! و هيهات. ثم عَبَرَ الرؤيا لصاحبيّ السجن، و شعر بأن رؤيا أحدهما تدل علي أن سيكون نديم الملك، فقال له – و هو يتلهف علي الخروج – اذكرني عند ربك. كلمة مفعمة بالأمل من متهم برئ، يطلب العدالة، و هو أحقُّ الناس بأن تعرف حقيقته و تنشر صفحته..
بيد أن النديم المبهور احتوته أضواء القصر، فنسي رفاق السجن، و نسي الرجل الصالح الذي بشره بمستقبله، و ذكره بنفسه، فلم يفعل شيئاً ما لانقاذ يوسف ((فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين))!
و اليوم في السجن، ذاهب في الطول مغرق في الملالة، فكيف ببضع سنين؟
لكن الأمر بالنسبة الي يوسف عليه السلام كان له معني آخر، كانت فترة السجن انضاجاً و اعداداً لمستقبل لا يخطر ببال، كان تهيئة لأرفع المناصب في دين الله و دنيا الناس، كانت جمعاً للنبوة و الملك.
و احتاج الملك و حاشيته الي يوسف في أعقاب رؤيا محيرة، و لكن الرجل الذي كان متلهفاً علي الخروج، ينشد له الوسائل الممكنة تريث هذه المرة، و أخذ يشترط قبل أن يتحرك نحو الحرية! ((و قال الملك أئتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع الي ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهم ان ربي بكيدهن عليم))
يوسف عندما طُلب للملك بعد تلك السنين كان في حال نفسية أخري! لقد بطل سعيه لنفسه، و امتد سكونه لربه، و استكان لقَدرِه الغالب، و استراح لما يقع له في الغد القريب و البعيد، فألهم الله الملك الرؤيا العجيبة، أليس الله سبحانه الذي يتوفي الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها؟ فلم يخرج يوسف من سجنه في عفو عام، كلا.. لقد عرف الجميع براءته و تقواه ووفاءه وشرفه..
و عندما خرج من ضيق السجن كان الطريق ممهداً أمامه ليضع قدمه في أي مكان من أرض الله الواسعة ((و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبَّوأ منها حيث يشاء))
ان ما صنعه الله ليوسف أفضل كثيراً مما صنعه يوسف لنفسه عندما قال لرفيق السجن ((اذكرني عند ربك)) المهم هو التبتل الي الله، و التأميل فيه، و الرضا بقضائه، و ألا تخون الرجل خصائصه الرفيعة في الساعات الحرجة..!!
و ما قصصناه آنفاً توكيد لحقيقة ايمانية تغيب عن بالنا كثيراً.
اننا نثق في أحكامنا و مشاعرنا و قد نظنها عين اليقين و قد تكون عند البحث عين الخطأ، و من هنا نفهم قوله تعالي لرجال قد يكرهون نساءهم و يرخصون عشرتهم و يخططون لمفارقتهن، يقول الله لا تفعلوا، اتهموا هذه العواطف النافرة ((و عاشروهن بالمعروف، فان كرهتموهن فعسي أن تكرهوا شيئاً و يجعل الله فيه خيراً كثيراً))
من يدري قد تنجب من هذه الزوجات أذكي الأولاد، و أكرمهم معدناً، و أنضرهم مستقبلاً.
و يمتد هذا الحكم من ميدان الأسرة الي ساحات الجماعة كلها، فالشعوب عادة تألف حياة السلام، و تؤثر رغد العيش، و تكره سفك الدم، و مغادرة البيوت و الأهل الي ميادين القتال.. لكن ما العمل اذا تعرضت العقيدة للاضهاد، و المقدسات للاهانة، و الكرامات للضياع؟
انه لا مفر عندئذ من الحرب و التعرض لمكارهها، و مهما فدحت الخسائر فالنتائج المخوفة أفضل من النكوص علي العقبين، و ذلك معني قوله تعالي: ((كتب عليكم القتال و هو كره لكم، و عسي أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم، و عسي أن تحبوا شيئاً و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون))
و قد تحولت أمم عن أرضها مخافة الموت فهل نجت منه؟ انها هربت منه في ميدان فوجدته ينتظرها في ميدان آخر، و لو صمدت له في الميدان الأول لقلّت مغارمها و مآسيها في الميدان الآخر. و الي هذا يشير قوله تعالي: ((ألم تر الي الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت ..)) هل نجوا من الموت بالخروج الذليل؟ كلا ((فقال لهم الله: موتوا..)) ثم أحيا الله بقاياهم بعدما تابوا و تشجعوا و كافحوا و بذلوا علي نحو ما حكي القرآن الكريم..
ان الله – لأنه حميد مجيد و لأنه كتب علي نفسه الرحمة – يصنع لعباده ما هو أفضل لهم و أجدي عليهم!
وثقتي في فضله تباركت أسماؤه تجعلني أستكين لأقداره و ان غابت عني حكمتها..
وهناك أمر آخر لا بد من معرفته: ان التفاوت بين المخلوقات، و حظوظها من الفضل الأعلي جزء من النظام الكوني السائد، فالناس ليسوا سواء فيما ينالون من عطاء الله، بل فيما يقدرون عليه بملكاتهم المادية و الأدبيةّ! يوجد امرؤ طاقته أن يحمل علي منكبه ثقلاً، أو يجر وراءه عربة، و يوجد من يطلق الصواريخ و يغزو الفضاء! و القرآن الكريم صريح في وجود هذا التفاوت، و خضوعه لمشيئة الله و حده ((ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم))
و الكواكب في السماء متفاوتة. يقول علماء الفلك: ان الشمس أكبر من القمر نحو ألفي ألف مرة! و الملائكة وهم العباد المكرمون متفاوتون (( .. جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثني و ثلاث و رباع يزيد في الخلق ما يشاء)) و الأنبياء و هم أشرف الناس، و أنفسهم معادن متفاوتون ((تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض، منهم من كلم الله، و رفع بعضهم درجات..))
و الظاهر أن هذا ((البعض)) الذي سما درجات هو محمد بن عبد الله صلي الله عليه و سلم، فهو في قمة الخليقة و علمها المفرد و أشرف من حمل صفة عبد الله!!
و مع أن التفاوت بين الكائنات من شئون الألوهية التي تغيب عنا، الا أننا نلحظ نوعا من الارتباط بين التغير النفسي الحاسم و بين الفضل الالهي المأمول، و لكي يتضح ما نعني نسوق الأمثلة الشارحة:
خاصم الخليل ابراهيم أباه و قومه في الأصنام التي يعبدونها من دون الله، وبدأ الخصام نظرياً في قيمة هذه الآلهة المزعومة، وحاول بالأدلة العقلية و المحاورات المتأنية أن يقنعهم بعبادة الله وحده لكنهم اصروا علي عوجهم.. فكان لزاما علي ابراهيم أن يمضي وحده في طريقه، و أن تتحول مخاصمته لهم الي اعتزال و مقاطعة، و أن يستوحش من الأقارب و الأصحاب ايثاراً للأنس بالله وحده. ثم يشرع بعدئذ في بناء مجتمع مسلم يعتز بالتوحيد، و يخطط له علي وجه الأرض، و يجادل فيه الملوك و غير الملوك! فماذا صنع الله له؟ قال سبحانه: ((فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحاق و يعقوب و كلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا و جعلنا لهم لسان صدق عليا))
انها مكافأة سخية لرجل كان أمة، اعتصم بالله و تحمل في ذاته الكثير.. فجعل الله له ابنه الثاني نبيا – بعد ابنه الأول اسماعيل- ثم زاد بركته فجعل حفيده من اسحق نبيا كذلك .. و ادَّخر في عقب اسماعيل النبوة الخاتمة للرسل أجمعين، ان بركات الله اذا انهمرت لم يقفها شئ، فاللهم أنلنا منها حسنة في الدنيا و الآخرة، فما لنا غني عن بركتك!!
و في قصة أهل الكهف مثل لتنامي رضوان الله الي حدود بعيدة.
ان أولئك الفتية أشبهوا ابراهيم في مخاصمة قومهم عبدة الأصنام، و انك لتري نضارة الفكر المؤمن في مسلكهم العقلي ، الايمان لديهم نزعة تقدمية تحترم الحقيقة و تحتقر الخرافة وتجري وراء الدليل و ترفض التقليد الأعمي! ((هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن))
أي .. هلا أتوا بدليل واضح علي ما يزعمون؟ لكن الباطل لا دليل له، و لا سناد للكذب، و لا اعتراف بأصحابه! ((فمن أظلم ممن افتري علي الله كذبا)).
و جرت سنة الايمان في طريقها، و نفر الشباب المؤمن من مشاركة قومهم في مراسم الوثنية، وقرر الاعتزال و المقاطعة، فكان الجزاء أن خلد الله ذكرهم في قصص خارق ووحي يتلي أبد الدهر ((و اذ اعتزلتموهم و ما يعبدون الا الله فأووا الي الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته و يهيئ لكم من أمركم مرفقا))
الغريب أن هؤلاء الشبان بعد رقدتهم المشهورة التي طالت قرونا استيقظوا و هم يحملون ذات العاطفة الناقمة علي الشرك و أهله، الموقنة بمصيره الحالك، و نلمس ذلك في توصيتهم لرفقيهم الذاهب لشراء بعض الطعام لهم، تلطف حتي لا يحس بك أحد، فان القوم اذا قبضوا علينا أفقدونا ديننا، و هنا الطامة! ((انهم ان يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا اذن أبدا)).
يبدو أن النفس البشرية يتم تجميدها علي ما ماتت عليه، لتبعث به يوم النشور دون زيادة و لا نقصان، سواء ظلت في نومتها الأخيرة ثلاثة قرون أو ثلاثمائة قرن، ان نهاية مشوارها في الحياة تحدد درجاتها في هذا السباق الكبير:
كم مرحلة قطعتها؟
و كم مرحلة يجب أن تقطعها؟
و من الفرق بين الرقمين يعرف الناشط و الكسول و السابق و المسبوق.
المصدر:
محمد الغزالي "ما نريده و ما يراد لنا". الحق المر- الطبعة الثالثة. دار الشروق: 1993
تعليقات
إرسال تعليق