نصر الأسرى .. نصر المسرى -- د. أحمد نوفل

1 هنيئا لأسرانا الأبطال بانتصار الإرادة
معذرة ، ان كانت كلماتنا أعجز من أن تًعبر عن فرحتنا بانتصاركم ، بانتصار إرادتكم الصلبة ، بانتصاركم في معركة الامعاء ، معركة الجوع . وانتصر الجوعى على المتخمين المترفين المدججين بكل اسباب القوة ، " المدججين " معها بكل اسباب الضعف ، هنيئا لكم اسرانا ، هنيئا لشعب فلسطين ، هنيئا لأمتكم التي وقفت معكم من طنجة الى جاكرتا ، ومهرجانات التضامن صورة مصغرة عما تكنّه الصدور والقلوب من عواطف ومشاعر نحوكم ونحو قضيتكم ، هذا يوم تقلّدتم فيه وساما عن جدارة واستحقاق ، وانتصر الصبر واليقين على طغيان الطاغين وجبروت المتجبرين .
ما أروعكم وقد انتزعتم من براثن هذا الوحش حقكم او بعض حقكم ، والحقوق لا تنتزع إلا انتزاعا ، ولا تؤخذ الحرية إلا غلابا ، ولا تستعاد الاوطان إلا بنهج المقاومة ، وصورة رائعة من صور المقاومة ، وانتصرت المقاومة ، واندحر نهج المساومة ، ولو فاوضنا اليهود على حقوقكم من يومنا هذا إلى نهاية العقد الثاني من هذا القرن ، والله ما حصلنا عشر ما حصلتم عليه بالمقاومة .
وهذا الدرس الأول ، فهنيئا لكم أيّها المعلمون ، يا من علّمتم أمتكم والعالم من بعدكم دروس المقاومة .
2 انتصار في ذكرى النكبة .
معنى مهم وكبير أن يتنازل العدو في يوم ذكرى النكبة ، ولا يخطر بالبال أن العدو رضخ في هذا اليوم إلا لشعوره بتفاقم الخطر لتعاظم التعاطف معكم ومع عدالة قضيتكم ، وخشي إن التقى اضرابكم المفتوح عن الطعام مع يوم النكبة أن تتأجج الضفة نارا ، وأن تفقد السلطة التابعة للاستعمار سيطرتها على الشعب ، وهي تريحهم من عناء كبير وتقوم بعبء ثقيل عنهم ، فتتنازل دولة البغي في هذا اليوم ، استشعارا منها بالخطر وإمكان أن تولّدوا في نفوس شعبكم بركانا من الغضب ، ونارا تتأجج من الثورة ، رغم عباس الذي يهدد بأن لا انتفاضة ثالثة ، خشي العدو وأتباع العدو أن ينطلق الربيع العربي من فلسطين هذه المرة ، وهي أخطر منطلق للربيع العربي ، وهي أصلا لم تغب عن وعي من فجّروا براكين الثورة التي سميت فيما بعد بالربيع العربي ، وإنّها لكذلك .
3 مشاعر مختلطة .
ألم النكبة لا ينسى ولا تخف وطأته ، لكنه جاء هذه المرة في هذه الذكرى ممتزجا بنكهة فرح ورنّة فرح ، بانتصاركم بعد طول انتظار . لن ينسينا فرحنا بكم ذكرى النكبة ، وليس مطلوبا أن ننسى بل ينبغي أن نصقل الذاكرة ونجدد الذكرى في كل سنة ، ونشحذ العزيمة حتى نسترد حقنا كاملا .
4 مظلومية هذا الشعب .
يا أمّتنا ، يا إخوتنا ، إنّ إخوانكم في فلسطين يواجهون وحشا كاسرا وعدوّا غادرا ، وظلما مستعمرا مدعوما من قوى الشر في العالم ، واستخذاء من دول العالم كله ، وبخاصة من يعنيهم الأمر في العالم العربي ثم العالم الاسلامي . ولا نستطيع أن نحيط بمظلومية هذا الشعب ، ويكفي أن نستحضر في ذكرى النكبة مظلومية التهجير من الوطن والعيش في الشتات في اقسى الظروف ، ولا مجال هنا للتفصيل ، لكنّ معاناة الاسرى تختزل معاناة الشعب الفلسطيني وتجسّدها وتصوّرها وتعبّر عنها أدق تعبير .
فلا يقل عن ربع الشعب الفلسطيني جرّب السجن والأسر والاعتقال والاحتجاز .و يكفي أن نستحضر هذه المسألة.
أضف إليه أنّ العدو يمارس مع الأسرى كل قذاراته التي ضجّت منها الدنيا بأسرها، بدءا من استئصال الكلى وغيرها دون علم المريض ، مرورا بجعلهم حقول تجارب ، وإخضاعهم لضغط نفسي تندك منه الجبال ، ومن لا يعرف هذا صعب أن يتصور ما معنى الأسرعند هؤلاء المجرمين الصهاينة.
هل يخطر ببالك أن يسجن شخص 67 مؤبدا ؟هذا بحد ذاته تجسيد للمأساة ! هل يخطر ببالك أن يقضي شخص عشر سنين في العزل الانفرادي ؟  إن الحجارة تندك من مثل هذا الهول .
هذا طرف من معاناة هذا الشعب التي جسّدها الأسر والسجن والاعتقال .
5 إبداع أساليب المقاومة .
مثلما أبدع الشعب في عملياته الاستشهادية أبدع الأسرى بابتكار أساليب مقاومة ، وهم في قبضة السجان ، لكنّ إرادتهم أعلى من السجن والسجان ، أقوى من الأصفاد والجدران ، فكان أن أبدعوا هذه الصورة من المقاومة ، وإن بدت صورة "سلبية" بمعنى أنه لا عمل ظاهرا فيها ، لكن آثارها في منتهى الايجابية.
و لماذا يهاب العدو من هذه الصورة من صور المقاومة ؟ ولماذا يخضع لهؤلاء الذين تحوّلوا الى صورة من الضعف الجسمي حتى فقدوا الحراك ، لكنهم كانوا في منتهى القوة ومنتهى العظمة ومنتهى التأثير . فمن أين جاءت كل هذه القوة مما ظاهرة منتهى الضعف ؟
لقد التقط العدو الرسالة ، لقد وضع الشباب أيديهم على عصب الإحساس وعنصر القوة ، إنها الارادة ، وكم كرّرتُ في الدروس والكتابات ، إنّ من لا ينتصر في معركة الأمعاء لا يتصوّر أن ينتصر في المعركة مع الأعداء ، وكنّا نكررها في دروس الصيام وفي قصة طالوت وابتلاء الجند بعدم الشرب من ماء النهر ، وغيرها من المواطن ، كالكلام عن التدخين ، ولم تكن هذه الصورة في المتناول حتى أدخلها الشباب في وعينا وصارت نموذجا لهذا المعنى .
العدو يخشى انطلاق الإرادة وانفتاق الإرادة وتحرر الإرادة ، والويل له ان تحررت الإرادة وتغيّرت الأنفس0
6 الرموز والمثل العليا .
لقد جسّد الأسرى رموزا للشعب الفلسطيني بدل القيادات السياسية التفاوضية المحصورة في الدهاليز والأساليب التقليدية . لقد اصبح هؤلاء قادة الشعب والمثل العليا التي تلتف من حولها الجماهير ، واليهود يخشون شخصيات تجسّد المثل والقيم ، وتشكل رمزيات جامعة ، وقيادات بديلة عن الغثاء الذي يسمى قيادات مرتبطة بالعدو ، ومنسقة أمنيا معه ، هذا وجه خطر آخر جعل العدو يرضخ .
إنّ وحدة الشعب أقوى الأسلحة في مواجهة هذا العدو ، وإنّ تفجّر طاقة الحب والمقدرة على الحب في قلوب الشعب لهذه الرموز ، حتى ان كثيرين أضربوا معهم تضامنا وشعورا ومساواة ومواساة ، هذه الطاقة يخشاها العدو أكثر من الأسلحة .
7 معركة الأمعاء الخاوية .
وإنّها والله لمعركة . وإنّ النصر فيها لهو النصر . ويسألك البعض :
وهل يجوز الإضراب عن الطعام ؟ وتجيب : إذا كان العالم أعمى  أصم عن قضيتك ومظلوميتك ، منشغلا بكل شيء إلا بك ، سائلا عن كل شيء إلا عنك ، فكيف تلفته الى حقك ؟ وكيف تجعله يرضخ لمطالبك العادلة الحقة المشروعة؟
هذه معركة خاضها ابطالنا ، ويسألك هؤلاء أنفسهم ، وماذا لو افضى الامر على استشهاد بعض المضربين ؟
إذا اتفقنا أنها معركة وهي كذلك ، فإنه لا بد أن يسقط شهداء وأن يقع جرحى . و يا أيها المفتون لا تبحثوا في بطون الكتب ، هذه صورة مستجدة تحتاج الى رؤية والى فهم وبصيرة وإدراك ونظر الى المقاصد . الفقه ليس حفظا وتسميعا ، الفقه فهم وحسن إدراك ، وفن تنزيل التنزيل على الواقع والوقائع والتفاصيل ، وإذا كانت الأمور بمقاصدها وغاياتها والاعمال بالنيات ، فأين هذه النوايا الاستشهادية من الانتحار الذي هو سخط على الاقدار .
إنما الشباب يتمثّلون قول الاصحاب : ركضا الى الله بغير زاد . ويرددون : وعجلت اليك رب لترضى .
وبعد :
فإني لأرجو ان أكون اول الفرحين المبتهجين بهذا الانتصار المبين للأسرى الجائعين ، ولعله يُشتم من وراء هذا اليوم نسائم تحرر المسرى مع نسائم تحرر ارادة الاسرى وتحقيق بعض مكتسباتهم ، وعسى ان يكون قريبا . وكما انتصر الاسرى أن ينتصر المسرى .


تعليقات