هل نهدم السد العالي - فيليب خلاب
بسبب السد العالي ازدادت «ملوحة» التربة، وازداد «النحر» في مجرى نهر النيل، وانخفضت نسبة «الطمي» التي تخصب الأرض المصرية وهجر «السردين» شواطئ دمياط ورشيد وبورسعيد! واكتشف أحد الباحثين قبل ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1974 أن هناك علاقة وطيدة بين السد العالي و(تلوث) مياه الشرب في القاهرة.. أي أن هناك علاقة بين السد العالي وبين نقص مادة «الشبة» وغاز «الكلور» المستخدمين في تنقية وتطهير المياه قبل أن تصل إلى البيوت، وكانت الصحف قد أشارت في ذلك الوقت إلى أزمة حادة في «الشبة» والكلور. واكتشف صاحب كازينو على النيل في القاهرة أن النهر العظيم فقد سحره القديم، ولم تعد مياهه الحمراء أو السمراء المحملة بالطمي تندفع كسابق مهدها وتجرف أمامها كل شيء. لقد شاخ النهر العظيم أن لم يكن قد مات! ومنذ إنشاء السد العالي لم تتوقف «الاكتشافات». يبدأ «الاكتشاف» كتساؤل أو كإشاعة في صحيفة أمريكية أو أوروبية أيًا كان شأنها وسرعان ما تتلقفها بعض «صالونات» القاهرة لتصبح كالحقيقة. واستمر معدل الاكتشافات بهذه الوتيرة العالية حتى كدنا نعرف في ذلك الوقت الصلة بين بناء السد العالي وبين نقص الصابون في الأسواق، أو بين اختفاء «الطمي» وندرة الدجاج في المجمعات، حتى يمكن أن نضع حدًا للاختناقات التموينية! ووصلت الاكتشافات إلى ذروتها عندما طالب البعض بضرورة الإسراع في هدم السد العالي «لإنقاذ» مصر من «آثاره المدمرة» قبل أن يصبح الوقت متأخرًا!لكن السخف في تلك «الاكتشافات» تجاوز حدود الهزل إلى محاولات غاية في الدأب لتشويه أعظم منجزات ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وللحط من أفضل نماذج التعاون بين ثورة ودولة وطنية تحاول وضع أساس متين للتحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبين دولة اشتراكية تقدم معونة مادية وفنية وفقًا لالتزام تمليه العقيدة السياسية والمصلحة المشتركة في تصفية آثار الاستعمار والتخلف. *** ومشكلة أعداء السد العالي إنهم لا يضعون خطًا فاصلاً بين ملاحظاتهم وتحفظاتهم الفنية أن وجدت، وبين معتقداتهم السياسية، وعدائهم المرير لثورة 23 يوليو ولجمال عبد الناصر وللاتحاد السوفيتي. ومع أن هناك ما يمكن أن يؤخذ على ثورة 23 يوليو وعلى جمال عبد الناصر وعلى الاتحاد السوفيتي حتى من جانب المؤيدين للثورة ولجمال عبد الناصر والمتعاطفين مع الاتحاد السوفيتي إلا أن أكثر الناس حيادًا وموضوعية وأبعدهم عن الانحياز المسبق لثورة أو دولة أو زعيم يرون أن السد العالي على التحديد لا يمكن أن يكون مجالاً لمطعن فني أو سياسي بالنسبة للثورة أو جمال عبد الناصر أو الاتحاد السوفيتي. لكن مشكلة الآخرين هي أن السياسة تختلط لديهم بالتكنولوجيا بحيث يصعب أن يبينوا هم أو نتبين نحن منهم: هل يهاجمون عبد الناصر لأنه بنى السد العالي أو يهاجمون السد العالي لأن الذي بناه هو عبد الناصر؟ وهل من عيوب الاتحاد السوفيتي إنه قدم مساعدة فعالة لبناء السد العالي، أو من عيوب السد العالي إنه بني بمعرفة الاتحاد السوفيتي؟ *** من اللافت للنظر أنه عندما كان السد العالي مشروعًا تحت التنفيذ بمعونة البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرهم لم تثر حوله الأقاويل الفنية والسياسية في صالونات وصحف القاهرة، لقد أستحق منهم يومئذاك كل أكبار وإعجاب! لكن عندما نكصت الولايات المتحدة الأمريكية عن تمويل المشروع (لأسباب سياسية كما اعترفت الدوائر الأمريكية بعد ذلك) بدأ الهمز واللمز الذي تطور إلى حملة باسم العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والحرص على «المصالح المصرية»!وبلغ الحرص بهؤلاء المدافعين عن «المصالح المصرية» إلى حد الدفاع المستميت عن كل «سردينة» قد تضيع من شاطئ رشيد وإلى درجة «البكاء» على بعض سحر ورومانسية النيل بعد أن خضعت مياهه لنظام «ديكتاتوري» صارم... حتى لو كان المقابل للسردين الذي فقدناه و «الرومانسية» التي افتقدناها مئات الملايين من الجنيهات المضافة إلى حسابنا سنويًا من الطاقة الكهربائية للصناعة والإنارة ومن المياه الضرورية لزراعة مليون وثلاثمائة ألف فدان.. في بلد غالبيته من الفلاحين، ومتوسط نصيب الفرد فيه من الأرض لا يتجاوز5/1 فدان، وتعداده يتزايد سنويًا بأكثر من مليون نسمة! ليت المتعصبين «لسردين مصر» يشعرون ببعض التعصب لمصر نفسها! *** ولعل من محاسن الصدف أنه عندما كانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب ماثلة للطبع نشرت صحف القاهرة هذه البشرى لأنصار السردين: «ظهرت أفواج السردين على شواطئ دمياط وبورسعيد أمس لأول مرة منذ 9 سنوات من بدء حجز مياه فيضان النيل خلف السد العالي. وكانت أبحاث خبراء الثروة المائية تؤكد أن من أسباب هجرة السردين، الذي تقدر قيمته بحوالي خمسة عشر مليونًا من الجنيهات سنويًا، هو منع مياه الفيضان المحملة بالطمي من أن تصب في البحر الأبيض المتوسط.». *** ولذلك ففيما عدا بعض الملاحظات الفنية والعلمية التي صدرت عن قلة نادرة ومخلصة من الخبراء المصريين لا تجد في الحديث المعاد والمعادي للسد العالي وجمال عبد الناصر وثورة يوليو سوى الخلط والمغالطة والدعايات السوداء. إن كل خبراء السدود في العالم يعرفون أن هناك آثارًا جانبية لبناء أي سد في أي مكان. والذين درسوا مشروع السد من الخبراء المصريين والعالميين وتحمسوا له ونفذوه يعرفون أن للسد آثارًا جانبية مثل أي مشروع مماثل في العالم. لكن ما يضيفه السد إلى الإنتاج القومي في الزراعة والصناعة لا يمكن أن يقارن بالآثار الجانبية، كما تؤكد الأرقام. بل إن الآثار الجانبية للسد من ازدياد ملوحة التربة أو النحر في مجرى النهر أو حرمان الأرض من بعض الطمي، أمور يمكن علاجها بأكثر من طريقة كما يقول الخبراء، وكما تؤكد الدراسات التي أجراها المهندسون والمختصون في وزارة الري. أما تكاليف علاج هذه الآثار الجانبية فلا تتجاوز بضعة ملايين من الجنيهات بالمقارنة مع مئات الملايين التي يوفرها السد العالي سواء من المياه والكهرباء والأرض المستصلحة والمحاصيل الجديدة، أو بتجنب كوارث الفيضانات العالية والمنخفضة. *** قد تكون الملاحظة المهمة الوحيدة التي لم يشر إليها خصوم السد العالي هي التساؤل المشروع لدى الكثيرين: لماذا لم تنجز الأعمال الضرورية لتجنب الآثار الجانبية للسد العالي في وقت ملائم حتى لا تتأخر عن التوقيت الذي اكتمل فيه بناء السد العالي؟ لماذا لم ننته من مشروعات الري والصرف للحد من الملوحة ومشروعات بناء القناطر المتعددة لوقف عملية النحر في مجرى النيل، والتوسع في مشروعات إنتاج الأسمدة لتعويض النقص في الطمي، وغيرها من الأسئلة المتعلقة بكفاءة تشغيل السد العالي حتى لا تضيع قطرة واحدة من المياه وحتى نتجنب أية آثار جانبية؟ ورغم أن الوقت لم يفت بعد لتدارك هذه الأمور ورغم أن ظروف مصر الاقتصادية وأعباءها العسكرية في مواجهة العدوان والاحتلال الصهيوني لعبت دورًا في عرقلة الكثير من المشروعات أو الإبطاء في تنفيذها، إلا أن مثل هذه التساؤلات كانت وستظل مشروعة تمامًا. لكن أحدًا من أعداء السد لم يحاول توجيهها!ذلك أن الهدف كان محاولة هدم السد العالي وعبد الناصر وكل إيجابيات ثورة يوليو. أن للسد العالي آثاره الجانبية بالتأكيد، لكن أثاره الايجابية تتجاوز كل السلبيات
تعليقات
إرسال تعليق