الوزير السلجوقي نظام الملك رائد مؤسسة التعليم في العالم الإسلامي
الوزير السلجوقي نظام الملك
رائد مؤسسة التعليم في العالم الإسلامي
مقدمة
التاريخ سجل
الماضي وديوان الأمم الذي يحفظ لها إرثها الإنساني على امتداد
الزمن: فبمجرد تصفح تاريخ أمّة من الأمم نستشف عمق تاريخها ونلمس أثره الفاعل
محليا، إقليميا وعالميا: فالأمم والشعوب الثرّية في العطاء والنتاج التاريخي هي التي تتقلد المراتب العليا لذلك
السلم برجالاتها وإنجازاتهم السياسية، العسكرية والعلمية.
وهذا ما سنحاول معرفته من خلال هذا المقال حول أحد الوجوه السياسية
والعلمية البارزة في التاريخ الإسلامي ألا وهو وزير الدولة السلجوقية، الوزير نظام
الملك، الذي كان له دور بارز في ظهور السلاجقة كقوة رئيسية مؤثرة على مسرح
الأحداث في المشرق الإسلامي، لم تسهم في تغير الأوضاع السياسية وحسب، بل
أيضا ساهمت بفاعلية في خلق نهضة علمية بالغة الأثر، يرجع الفضل في التأسيس لها
وتنفيذها للوزير نظام الملك.
لقد أسس السلاجقة([1]) في
القرن 5 ﻫ/ 11 م دولة ضمت: خراسان، ما وراء النهر، إيران،
العراق، بلاد الشام وآسيا الصغرى، وساندت الخلافة العباسية ضد خصومها البويهيين([2]) في إيران
والعراق والفاطميين في مصر والشام. وبالفعل تمكن السلاجقة من القضاء على النفوذ
البويهي عام 447 ﻫ وإخماد الفتن المذهبية وأيضا إفشال مشاريع الدولة الفاطمية
العبيدية.
و بعد كل هذه النجاحات دخل الزعيم السلجوقي طغرل بك بغداد واستقبله
الخليفة القائم بأمر الله بحفاوة، وقال في حضرته: »أنا خادم أمير المؤمنين، ومتصرف على أمره
ونهيه، ومتشرف بما أهّلني له، واستخدمني فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق«([3])، وهنا لقبه
الخليفة بالسلطان ركن الدين، وهذا ما زاد من شأن السلاجقة وقوى نفوذهم في
بغداد والمنطقة بأكملها.
لقد تكرست الدولة السلجوقية كقوة عسكرية مؤثرة وفاعلة بعد هزيمة الروم
في معركة ملاذ كرد عام 463 ﻫ/ 1070 م، في عهد السلطان ألب
أرسلان واتسع نطاقها في عهد ابنه السلطان ملكشاه، لتبلغ أقصى امتداد لها من
أفغانستان شرقا إلى آسيا الصغرى غربا وبلاد الشام جنوبا.
ولكن أين هو الوزير نظام الملك من كل هذه الأحداث ؟
لقد ظهر، في زمن السلطان ألب أرسلان، الوزير قَوام الدين أبو علي
الحسن بن علي بن إسحق بن العباس المعروف بنظام المُلك الطوسي، ولد في نواحي طوس في بلدة نوقان سنة 408 ﻫ، حفظ القرآن ودرس الحديث والفقه على المذهب الشافعي، كما تنقل في طلب العلم بين اصفهان، بغداد ونيسبور. ثم رحل إلى غزنة وعمل في الديوان السلطاني، ثم دخل في خدمة الوزير أبي علي بن شاذان بإخلاص وفاعلية، وبعد وفاة هذا الأخير عينه السلطان ألب أرسلان وزيرا.ً
ولما توفي السلطان نجح نظام الملك في التغلب على خصوم ملكشاه وتثبيته في السلطنة. وبقي الوزير في منصبه عشرين سنة أمضاها في إدارة شؤون الدولة، بناء المدارس، نشر العلم
وخدمة أهله.
لقد بذل الوزير جهودا مضنية للنهوض بالحركة العلمية وتجديدها، ومن ثمة قام بتأسيس المدارس النظامية في كل من بغداد والبصرة والموصل وغيرها من
الأماكن، وتعتبر نظامية بغداد أولى هذه المدارس. لقد كان لهذه المدارس أثر
كبير في الحياة العقلية الإسلامية وفي التنظيم التعليمي، الذي أسس لنظام تربوي
جديد يقوم على أساس التخصص وأيضاً توفير البيئة المناسبة للعلم والتحصيل العلمي
للعلماء والطلبة على حد سواء. وتعد تجربة المدارس النظامية أول تجربة ناجحة في
مؤسسة التعليم وإشراف الدولة على شؤونه، حيث كان حرص الوزير شديدا على أن تؤدي هذه المدارس الرسالة التي أنشئت من أجلها ومن بينها التصدي
للنفوذ المتزايد للمذهب الشيعي.
وفي سياق اكتشاف ودراسة أبعاد تجربة الوزير نظام الملك في مجال
التعليم ضمن إطار ما يعرف بالمدارس النظامية، سوف نعتمد المنهجية
التاريخية بالاتساق مع منهجي المقارنة والتحليل والتركيب، حيث أن:«كل دراسة فكرية
لا بد لها من عمق تاريخي يواكبها ويوضح معالم الطريق ويضع المؤشرات التي ينبغي أن
تصاغ عليها، مع فهم موضوعي للفترة ذاتها»([4]).
ومن خلال ما سبق سنحاول طرح التساؤلات التالية:
من هو الوزير نظام الملك؟، ما حقيقة تجربة المدارس النظامية التي تعد،
حسب الكثيرين، أول تجربة تؤسس للمدارس الحكومية أو التعليم العام ؟ كيف نقيم تجربة
المدارس النظامية وأيضا إنجازات هذا الوزير النابغة العلمية والثقافية؟
I - مدخل تاريخي، سياسي وفكري لعصر الوزير نظام الملك
يعد طغرل بك (455 ﻫ/ 1063 م)، المؤسس الحقيقي لدولة السلاجقة، التي كان يدير
شؤونها التنفيذية الوزير أبو نصر منصور بن محمد الكندري نسبة إلى قرية قريبة من
قزوين، وقد حصل على لقب سيد الوزراء مصافا إلى عميد الملك من الخليفة العباسي
القائم([5]) وبعد
وفاته نشب صراع على السلطة حسمه ابن أخيه ألب أرسلان لصالحه، بمساعدة نظام الملك.
كان ألب أرسلان صورة لعمه طغرل في الكفاءة والمهارة والقيادة، فحافظ على
ممتلكات دولته، ووسع حدودها على حساب الأرمن والروم، وتوج جهوده في هذه
الجبهة بانتصاره الكبير على الروم في معركة ملاذكرد([6]) الخالدة
في عام 463 ﻫ/ 1070 م.
لم يتذوق ألب أرسلان جيدا طعم ما حققه من نصر عظيم، حيث قتل على يد
أحد خصومه، وعمره 44 عاما،
وذلك عام 465 ﻫ/ 1072 م، وخلفه ابنه ملكشاه. تولى نظام الملك أخذ البيعة لملكشاه وأقره الخليفة العباسي القائم
بأمر الله على السلطنة، ولم يكتف ملكشاه بتثبيت نظام الملك في الوزارة
بل فوضه أمر إدارة الدولة لما يعلم من قدرته وكفاءته، ولقبه
بلقب أتابك، أي الأمير الوالد. وكان هو أول من أُطلق عليه هذا اللقب.
بلغت دولة السلاجقة أقصى اتساع لها، حيث امتدت من حدود الهند شرقا إلى
البحر المتوسط غربا، وضمت أقاليم ما وراء النهر وإيران وآسيا الصغرى والعراق
والشام، وبلغ من قوة الدولة أن ظل قياصرة الروم، بعد معركة
ملاذكرد، يدفعون بانتظام الجزية سنويا.
لقد ارتبط نجاح ملكشاه في إدارة شؤون الدولة بوزيره نظام
الملك، الذي لعب دوراً مهماً في ازدياد قوة الدولة السلجوقية،
واتساع نفوذها وازدهار حركاتها الثقافية([7])، كما
يؤكد على ذلك غالبية المؤرخين والباحثين، وهو ما أكسب السلاجقة احترام المسلمين
وتقديرهم.
فمن هو نظام الملك؟ الوزير نظام الملك: السيرة الشخصية
II-1. المولد والنشأة
هو قوام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي
الملقب بخواجة بزك أي نظام الملك، ولد في بلدة صغيرة من نواحي طوس تسمى نوقان في 10 أبريل 1018 م/ 21 ذو
القعدة 408 ﻫ، وكان أبوه من الدهاقين، أي رؤساء الفلاحين([8])، وتوفيت
أمه زمرد خاتون من عائلة آل حميد الدين الطوسي الذين كان أكثرهم وزراء([9])، وهو رضيع
فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حتى شب([10])،
وقد عُني به أبوه فتعلم العربية وحفظ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشر
وألم بالفقه على مذهب الإمام الشافعي وسمع الحديث بأصفهان من محمد بن علي بن
مهريزد الأديب، وأبي منصور شجاع بن علي بن شجاع، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري،
وببغداد من أبي الخطاب بن البطر، كما جلس للإملاء ببغداد في مجلسين أحدهما بجامع
المهدي بالرصافة، والآخر بمدرسته، وزيادة على ذلك درس الآداب التي تتعلق
بأمور الحكم.
ولما ترك أباه رحل إلى بلاد خراسان ووصل إلى غزنة في صحبة بعض
المتصرفين وبدأ أمره في خدمة أبا علي بن شاذان وزير السلطان ألبَ أرسلان
الذي أحبه لما رأى فيه من العفة والأمانة والتقوى، وأوصى به السلطان عند وفاته،
فقربه السلطان إليه ونصبه وزيراً مكانه. اتصل نظام الملك بداود بن ميكال شقيق
طغرل بك، وكان يحكم خراسان، وعمل معه فأعجب بكفاءته وإخلاصه، فألحقه بحاشية ابنه
ألب أرسلان، وقال له: «اتخذه والداً، ولا تخالفه فيما يشير به»([11]).
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أنه كان لنظام الملك صديقي دراسة هما:
حسن بن صباح وعمر الخيام. وأقسم جميعهم على مساعدة بعضهم في حال نجاح أحدهم في
حياته وتوليه لمنصب رفيع. كان النجاح الأول من نصيب نظام الملك، الذي احتل منصبا
رفيعا يتمثل في وزير السلطان السلجوقي. لم يَنْسَ نظام الملك قسمه الذي قطعه مع
أصحابه، وعليه فقد أمر بصرف راتب ثابت للشاعر عمر الخيام بينما أسند لحسن بن صباح
منصبا رفيعا في الدولة. لكن، حدث ما لم يكن بالحسبان. فقد تمكن حسن بن صباح من
منافسة نظام الملك في السلطة مما اضطر الأخير لطرده من السلطة عن طريق مؤامرة حيكت
من قبله. وحينها اقسم بن صباح على الانتقام من صديقه([12]).
ومن هنا تبدأ حلقة من الصراع بينهما، انتهت آخر فصولها باغتيال الوزير
نظام الملك بنهاوند.
كما يروى أن الوزير نظام الملك عزم على أداء فريضة الحج في عهد
السلطان ملكشاه، ولكن ذلك لم يتم بسبب رؤيا لأحد الفقراء تحث الوزير على تعويض
الحج بقضاء حوائج الناس، حسب قول عبد الله السّاوَجِيّ: «استأذن الوزير
نظامُ الملك السلطانَ ملكشاه في الحج، فأذن له. فعبر دِجلة وعبر خدمه
بالآلات والأقمشة، وضربت الخيام على شط دجلة. فأردتُ يوماً أن أدخل عليه، فرأيت بباب الخيمة
فقيراً يلوح عليه سيما المتصوفة. فقال لي: يا شيخ، أمانة توصلها إلى
الوزير. قلت:
نعم. فأعطاني رقعة مطوية، فدخلت بها، ولم أنظر فيها حفظاً
للأمانة، ووضعتها بين يدي الوزير. فلما نظر فيها بكى حتى ندمتُ وقلت في نفسي: ليتني نظرت
فيها، فإن كان ما فيها يسوءه لم أدفعها إليه. ثم قال لي: يا شيخ، أدخل عليّ
صاحب هذه الرُّقعة. فخرجتُ فلم أجده، وطلبتُه فلم أظفر به. فأخبرت الوزير
بذلك، فدفع إليّ الرُّقعة فإذا فيها: "رأيت النبيr في المنام، وقال لي:
اذهب إلى الوزير وقل له: لِمَ تذهب إلى مكة؟ حجُّك هاهنا. حجُّك في إعانة
أصحاب الحوائج". وعاد نظام الملك إلى بلاده ولم يحج. ثم رأيت الفقير بعد
ذلك على شط دجلة وهو يغسل خُرَيْقات له. فقلت: إن الوزير يطلبك. فقال: مالي
وللوزير؟ إنما كانت عندي أمانة فأديتُها»([13]).
وعلى كل فقد كان نظام الملك شخصية تتحلى بالفطنة والذكاء والحكمة،
والقدرة على إدارة الأمور، وكلها مؤهلات ضرورية لمن يتطلع إلى تولي المناصب
القيادية العليا بفاعلية واقتدار.
II-2. من نظام الملك
إلى الوزير نظام الملك
ولما توفي طغرل بك أجلس وزيره الكندري المعروف بعميد الملك على عرش
الدولة سليمان بن داود ابن أخ السلطان وولي عهده، وكان طفلا صغيرا لا يتجاوز أربعة
أعوام، ولم يرض الناس بذلك فالتفوا حول ألب أرسلان، وكان قائدا شابا وسياسيا
بارعا، توفرت فيه صفات القيادة ، فنجح في دخول الري عاصمة الدولة ومعه
نظام الملك، وذلك في ذي الحجة عام 455 ﻫ/ ديسمبر 1063 م
واستقبله الكندري وهنأه على السلطنة([14]).
وعقب تولي ألب أرسلان السلطة أقر الكندري على الوزارة، الذي حاول أن
يكسب رضا السلطان، أملا في الاحتفاظ بمنصبه، لكن ذلك لم يدم طويلا، فسرعان ما ساءت
علاقته بالسلطان، الذي أوجس منه خيفة([15])،
وكان لنظام الملك يد في ذلك وأيضا في التحريض على عزله: فأقدم السلطان على خلعه في
المحرم 456 ﻫ/ يناير 1064 م وسجنه، ثم لم يلبث أن قتله بعد نحو عام([16]).
ويروى أن الوزير الكندري قال لجلاده ساعة قتله: «قل للوزير نظام الملك: بئس ما
فعلت علمت الأتراك قتل الوزراء وأصحاب الديوان، ومن حفر مهواة وقع فيها ومن سَنَّ
سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»([17]).
وبعد عزل الكندري تولى نظام الملك الوزارة، ولم يكن وزيرا مدبرا
للأمور فحسب، بل كان راعيا للعلم والأدب، يحفل مجلسه بالعلماء والفقهاء والأدباء.
وظل نظام الملك يعمل مع ألب أرسلان تسعة أعوام ونصف وزيرا ومساعدا له،
ازدهرت الدولة في عهده، توطدت دعائمها، اتسعت حدودها، وتوجت جهودها بالانتصار على
الروم البيزنطيين.
II-3. نظام الملك:
الوزير ورجل الدولة
ظهرت قوة الوزير نظام الملك وتكرس نفوذه بعد وفاة ألب أرسلان، فوقف
إلى جوار ابنه الأكبر ملكشاه، وكان الصراع حينها محتدما بين أفراد البيت السلجوقي،
لكن ملكشاه كان أرجحهم كفة، وأقواهم نفوذا، فضلا عن مؤازرة الوزير نظام الملك
وتأييده له، فتولى السلطنة، وأسند الوزارة إلى نظام الملك حتى تستقر الأوضاع ويعم
الأمن أرجاء الدولة.
كان السلطان الجديد في سن العشرين عندما تولى الحكم، في حين كان وزيره
في الخامسة والخمسين ، سياسيا محنكا، صهرته التجارب والأيام، وخبر الحكام
والسلاطين، وهو ما جعل السلطان الجديد يجلّه ويحترمه، ويخاطبه بكل تبجيل ويناديه
بالعم، ويلقي إليه بمقاليد الأمور، ويضع فيه ثقته، قائلاً له: «قد رددت الأمور
كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد»([18]).
وأدت هذه العلاقة الوثيقة بين السلطان ووزيره إلى ازدهار الدولة
وبلوغها ذروة المجد، حيث أصبحت أكبر قوة في العالم آنذاك.
II-4. الوزير نظام
الملك المنظر السياسي
ومما يلفت النظر، أن الوزير خلف آثاراً فكرية تشهد له
بالنبوغ وبالحكمة وبالمعرفة الواسعة، أهمها كتابة: "سياست نامه"،
أي كتاب السياسة، باللغة الفارسية والذي ترجم إلى لغات عديدة منها اللغة العربية([19]).
ويتضمن الكتاب أفضل النظم لحكم ولايات الدولة، تصريف الأمور، وأصول الحكم، التي
تؤدي إلى استقرار البلاد([20]).
وكل فصل من فصول هذا الكتاب الخمسين، يكشف بوضوح تام عن ناحية من
أوضاع الحكم، وأجهزة الإدارة، والطبقات الاجتماعية، قواعد السلوك ومراسم ذلك
العهد، وتقاليده وآدابه. الكتاب عبارة عن خلاصة تجاربه في الحكم والسياسة. إنه
مذكرات سياسي ووزير عظيم أسس لما يسمى في وقتنا الحاضر بالحكم الراشد ابتعد فيها
عن الخوض في الأمور المتعلقة بحياته الخاصة، وانصرف في الأكثر إلى تعليم السبل
التي تدار بها الممالك والدول. والكتاب فوق ذلك غني بالآراء الحكيمة والنصائح السديدة
والمنهج الرشيد في تسيير شؤون الدولة.
ويرى الوزير أن حكم الدول والممالك والحفاظ عليها لا يقوم إلا على
العدل المطلق، وقد نبّه على هذه الناحية مرات بصور شتى: فهو يرى أن رضى الحق
تعالى، وقوة سلطان ملكشاه، وصلاح الجيش والرعية منوطة كلها بالعدل والإحسان،
ويعتقد بأن «الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم». ويقول لملكشاه في
صراحة: «وفي الحقيقية إن سلطان العالم - خلَّد الله ملكه- يدرك أنه
سيسأل في ذلك اليوم العظيم عن جواب هذه الخلائق التي تحت إمرته، وأنه لن يُسمع منه
شيء إذا ما أحال إلى شخص آخر، فما دام الأمر كذلك، فعلى الملك ألاّ يعهد بهذه
المهمة لأحد، وألا يغفل عن شؤون الخلق». ويرى أيضا في هذا الكتاب الذي سبق به المؤلفات السياسية
الشهيرة التي جاءت بعده: «ليس ثمة ذنب أعظم من ذنوب الملوك عند الله تعالى، إن
معرفة حق نعمة الله على الملوك إنما تكون في المحافظة على الرعية وإنصافها، وكفّ
أيدي الظالمين عنها».
واللافت للانتباه هنا، أن نظام الملك، وهو الوزير ذو النفوذ الواسع،
يكتب هذه النصائح ويوجهها إلى السلطان ملكشاه وهو يعمل تحت إمرته، فهو لا يكتب من
فراغ أو يكتب لمجرد التأليف النظري المحض، ولكنه يكتب وهو يمارس الحكم إلى جانب
صاحب الشأن الأول وولي الأمر الذي يدين له بالطاعة. وتلك ميزة هذا الكتاب، كما
أنها ميزة فريدة لنظام الملك، وفي هذا الصدد يقول: «وعلى الملك ألا
يقطع في أمور الدولة من غير أن يستشير المجربين وذوي الرأي في مملكته، فإن قوة
رأيه، وإن كان مصيبا كقوة رجل واحد، فإذا استشار عشرة رجال من ذوي الخبرة كان رأيه
كقوة عشرة رجال، وليس في الشورى ضعف أو عدم ثقة بالنفس، فإن المسلمين جميعا متفقون
على ما كان للنبي عليه السلام من قوة الرأي وصدق الفراسة، وقد أتيح له أن يرى
السماوات والأرض والجنة والنار واللوح والقلم والعرش والكرسي، وكان جبريل يتحدث
إليه وقد أحاط خبرا بما كان وبما سيكون، ومع كل ذلك الفضل الذي أسبغه الله عليه
ومع معجزاته التي ليست في طاقة البشر، فإن الله تعالى يقول له: }وشاورهم
في الأمر{([21])، فعلى الملك أن يشاور ذوي الرأي في مملكته، وأن يقارن رأيه بآرائهم
ويقلبها معهم جميعا حتى يظهر الرأي الذي يجب أن يتبع، وعليه أن يعلم أن
الاستئثار بالرأي ضعفٌ لا قوة، وأن من الغرور أن يعتد المرء برأيه ولا يسأل
عن آراء الآخرين».
وقد كان سلاطين السلاجقة الأوائل شديدي التعلق بالإسلام ومن ثمة فهم
في أشد الحاجة لفهمه ولذلك عمل نظام الملك على توجيه عنايتهم إلى العلم، واحترامهم
للعلماء: فقد تكلم في كتابه عن السلطان وعن واجباته واختصاصه، وعن خزينة الدولة والمراسيم السلطانية، والحاشية السلطانية، والمائدة
السلطانية، والاستقبالات السلطانية، والحرس السلطاني،
وناظر الخاصة، والوزير والوزارة، والموظفين في الدولة،
والسفراء بين الدول، والقضاة والقضاء، والمحتسبين للمراقبة، والولاة وأصحاب الإقطاعات، والتجنيد، والجيش وإعداده والألقاب
وتحديدها.
هكذا يتصدر نظام الملك الطوسي قائمة الوزراء والحكام الراشدين الذين
تفتخر بهم الحضارة الإسلامية([22]).
II-5. أفكاره ومنهجه
في إدارة شؤون الدولة
لما تولى ملكشاه السلطة أسند إدارة شؤون الدولة كلها إلى الوزير نظام
الملك وأعطى له كل الصلاحيات، فعمل على إعادة تنظيم مصالحها المختلفة.
كان الوزير نظام الملك مقدسا للإسلام متمسكا بتعاليمه، كما كان شغوفا بعلومه محترما لأعلامه
حتى صار دينه ودولته على السواء، وأن كلاّ منهما يكمل الآخر. ولفرط تثمينه
للدين وشدة دفاعه عن الدولة فإنه يرى الدولة وسيلة من وسائل نشر الإسلام
بين الناس. وقد ظهر علماء كبار بينوا ارتباط الدين بالدولة، بحيث صار وسيلة لها
وغاية في آن واحد: فالغزالي والماوردي يقولان: «إنه ليس دين زال سلطانه إلا بدلت
أحكامه وطمست أعلامه وكان لكل زعيم فيه بدعة، كما أن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى
يرى أهل الطاعة فيه فرضا والتناصر له حتما» وقيل: «الدين أس والسلطان حارس،
وما لا أس له فمهزوم وما لا حارس له فضائع»([23]).
والواقع أن نظام الملك وهو يخطط لمعالم الدولة المنشودة، كان أقرب إلى
الواقع منه إلى الخيال، وقد انطلقت رؤيته للدولة من أصول المذهب الشافعي الأشعري، التي نظّر لها علماء
عصره. ونظام الملك هو الذي رد الاعتبار للأشاعرة وأمر بإسقاط لعنهم على المنابر([24]).
وكان الوزير شديد الاهتمام بالعمل على استتباب الأمن الفكري في
المجتمع لا بالاضطهاد وقمع الحريات وإنما عن طريق بناء شبكة من المدارس معروفة
بالنظامية في مناطق مختلفة، وكما تقول فوقية محمود: فنظام الملك بفتحه هذه
المدارس، والإنفاق عليها بسخاء، لم يكن يرمي إلى نشر العلوم الدينية فحسب، وإنما
كان يهدف في قرارة نفسه، إلى تحقيق إصلاح جذري لأحوال البلاد المضطربة. ومن ثمة
فهو لم يكن رجل سياسة فحسب، بل كان مصلحا اجتماعيا([25]). ويقول
عنه الذهبي أيضا: «الوزير الكبير، نظام الملك عاقل، سائس، خبير سعيد متدين،
محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد وأخرى بنيسابور، وأخرى
بطوس، ورغب في العلم وأدر على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبعد صيته. تنقلت به
الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان ثم لابنه ملكشاه، فدبر ممالكه على أتم ما
ينبغي، خفف المظالم، رفق بالرعايا، بنى الوقوف، جذب الكبار إلى جانبه وأشار إلى
ملكشاه بتعيين القواد والأمراء الذين فيهم خلق ودين وشجاعة. وظهرت آثار تلك
السياسة فيما بعد»([26]).
لقد كان للحركة الفكرية التي قادها الوزير، بموازاة مع الحركة
السياسية، الاقتصادية، التعليمية، العسكرية، الدور الكبير في القضاء على الفتن وفي
استقرار الأوضاع في أنحاء مهمة من العالم الإسلامي.
وكان الوزير يشرف بنفسه على رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية مستفيدا من خبرته ومعرفته لنظم الإدارة، ومن ذلك محاربته
الشديدة للمحسوبية واستغلال السلطة: فقد كان يقف بشدة ضد تدخل المقربين من
السلطان في شئون الدولة، حتى لا يتسبب ذلك في فساد إدارتها، كما عمل على الحد من استغلال الموظفين لسلطاتهم حتى لا يرهقوا الرعية بالرسوم والضرائب الباهظة،
وكان يغير الولاة والعمال مرة كل سنتين أو ثلاث ضمانا لعدم تلاعبهم أثناء أدائهم
لوظائفهم. كذلك كان يهتم بشكل خاص بالبريد الذي كان رجاله
يوافون الحكومة بكل أخبار البلاد الخاضعة لها، وكان أيضا يصرف مرتبات مجزية لموظفي الدولة منعا لاختلاس أموال الدولة واستغلال المنصب، كما كان
حريصا على مراجعة حسابات الدولة في نهاية كل عام لمعرفة المداخيل
والمصاريف.. هذا فضلاً عن حرصه الشديد على إرسال المخبرين إلى جميع الأطراف في هيئة تجار وسياح
ومتصوفة ودراويش وعقارين، يترصدون الأخبار ويرسلونها للسلطان في حينها حتى
يكون على علم بما يجري في مملكته([27]). وبذلك
قد نجح في إحباط ما كان يحاك من مؤامرات ضد الحكومة المركزية.
ولكي يضمن تنفيذ خططه الإدارية بدقة استعان بعدد من
كبار موظفي الدولة المخلصين والأكفاء، وكون منهم ما يشبه المجلس الاستشاري([28])، مهمته
دراسة ما يعرض عليه من أمور مهمة ووضع الحلول الملائمة لها، ومن ثم متابعة تنفيذها بدقة.
وكما كان لنظام الملك دور مهم في الإصلاح السياسي، الإداري والتعليمي،
كان له دور لا يقل أهمية في مجال الإصلاح الزراعي: فقد عمل على إعادة رسم سياسة
زراعية جديدة تقوم على تثمين الأرض وزيادة مردودها، حيث رأى أنه من الأصلح للدولة
أن توزع الأراضي على شكل إقطاعات أو أتباكيات على رؤساء الجند يتم استثمارها،
مقابل دفع مبلغ من المال لخزانة الدولة مع المراقبة الشديدة لمدى فلاحة الأرض
ووفرة إنتاجها، وإلا يسحب حق الامتياز، فكان هذا الإجراء سببا في تطور الزراعة وزيادة الإنتاج. لكن ما لم يكن
في الحسبان، أن أصحاب الإقطاعات سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من إقطاعاته إمارة صغيرة حاولت كل منها، فيما بعد، الانفصال عن السلطة وهو عكس ما كان تهدف إليه سياسة نظام الملك، وقد أدى هذا إلى تفكك وحدة السلاجقة وإلى إجهاد السلطة السياسية الحاكمة ، وإلى توزع الدول بين عديد من الأمراء([29]).
ومن جهة أخرى طلب الوزير من الولاة([30]) أن
يكونوا على اتصال دائم بالفلاحين، تفقد أحوالهم ومدهم بالمساعدة بتزويد من يحتاج منهم بالبذور والدواب، بغية ربطهم بالأرض، ومن ثمة لا
يضطرون إلى هجرتها، مما يمكن الدولة من بسط سيطرتها الأمنية على الأفراد
والجماعات. كما شجّع على تعمير المدن وإصلاح البلاد، وشيد كثيرا من المساجد
والمدارس، وخلف كثيراً من الأبنية والآثار العظيمة في بغداد وأصفهان، كما كان خيّرا
عادلا، أقر الأمن والنظام في جميع البلاد الخاضعة للسلاجقة.
II-6. مشروعه في النهوض
بالحركة العلمية والثقافية
اعتمد نظام الملك من أول يوم لوزارته سياسة تقريب الرجال العلماء،
الأكفاء والصالحين: فقد قال يوما لألب أرسلان، وقد خاف من عمه الذي خرج عليه يريد
قتاله: «يا أيها الملك، لا تخف فإني قد استدمت لك جنداً، ما بارزوا عسكراً إلا
كسروه كائنا ما كان، قال له ألب أرسلان: من هم؟، قال: جند يدعون لك وينصرونك
بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء». لذا، ارتكز
مشروعه الإحيائي للمذهب السني والإصلاحي لشؤون الحكم على قاعدتي الجهاد
والعلم. وكان بالفعل محبا لأهل العلم والإحسان إليهم، حتى أنه خصص لـ 12 ألف من العلماء في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية رواتب ثابتة تصرف لهم
بانتظام([31])،
وبالإضافة إلى ذلك كان مجلسه يضم كبار العلماء في شتى فنون العلم .
لقد قام الوزير بإنشاء المكتبات وزودها بالكتب، فكانت سوق العلم في
أيامه قائمة والعلماء في عهده مرفوعي الهامة. والوزير نظام الملك هو صاحب
مشروع المدارس النظامية، التي انتشرت في كل من بغداد والبصرة والموصل وأصفهان وآمل
وطبرستان ومرو ونيسابور وهراة وبلخ، وقام الوزير بإنشاء هذه المدارس في عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان.
لقد تميز الوزير نظام الملك بحب علم الحديث، حيث كان يقول: «إني أعلم بأني لست أهلا للرواية ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول
الله». وكان حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها: فعندما أرسل إليه أبو
الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتا من الشعر يستحثه على المسارعة
للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة فقام الوزير وقضى على الفتنة.
لقد كان مجلس الوزير عامرا بالفقهاء والعلماء حيث يقضي معهم جل نهاره فقيل
له: «إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم
على رأسي لما استكثرت ذلك». وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري، وأبو المعالي الجويني
قام لهما وأجلسهما معه في المقعد، فإن دخل أبو علي الفارندي قام وأجلسه مكانه،
وجلس بين يديه، فعوتب في ذلك فقال: «إنهما إذا دخلا عليّ قالا: أنت
وأنت، يطرونني، ويعظمونني ويقولون في ما لا في، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل
علي أبو علي الفارندي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر، فأرجع عن كثير مما أنا فيه».
هل كان الوزير نظام الملك أول من أنشأ المدارس الإسلامية ؟ إن الذي
ينسب إلى الوزير هو هذه النهضة التعليمية التي لم تتوقف قط، هو هذه الشبكة من
المدارس التي انتشرت في القرى والمدن، ولا يستطيع إنسان أن يدعي أنه يجاري الوزير
نظام الملك في هذا المجال([32]).
II-7. التجديد في النظام
التعليمي: المدارس النظامية
بعد اتخاذ المساجد كمؤسسات تعليمية لعدة قرون، لاحظ المعنيون بالشأن
التعليمي أن هذه الأخيرة أصبحت لا تفي بغرض التعليم وخصوصا وأن العلوم أخذت تزداد
في آفاقها وأصبحت حركة الترجمة تفتح آفاقا علمية جديدة، لذا بدأ التفكير في إنشاء
مدارس متخصصة بدلاً من المساجد الجامعة: ففي القرن 4 ﻫ/ 10 م
تبلورت فكرة إنشاء المدارس كمؤسسات متخصصة للتدريس وقد أوقفت لها الأوقاف
لدعم ميزانيتها المالية وسد نفقاتها واحتياجاتها وجعلت فيها خزانات الكتب
وأيضا مساكن للغرباء. وشكل ذلك بداية لنهضة تعليمية قائمة على أسس التجديد
والتحديث.
وكان إنشاء المدرسة النظامية ببغداد سنة 459 ه/ 1066 م، من قبل نظام
الملك وزير السلطان السلجوقي ألب أرسلان، فاتحة عصر جديد تبنت فيه الدولة إنشاء
المدارس ورعاية التعليم. وكان لنظامية بغداد أهمية كبيرة في الحضارة الإسلامية
باعتبارها أول مدرسة نظامية في العالم الإسلامي، وأيضا لأن نظام الملك وضع قاعدة
مهمة اتبعت من بعده في العصور اللاحقة، ألا وهي إنشاء المدارس من قبل الدولة
واستقلالها عن المساجد، وتوفير مستلزمات السكن وقاعات التدريس للمدرسين والطلبة مع
تخصيص أجور شهرية لهم([33]).
غير أن الباحثين قد اختلفوا حول بداية نشأة المدارس الإسلامية: فغالبيتهم رأوا أن أول ظهور لها كان في عهد الوزير نظام الملك، ومنهم من قال أن ظهورها كان قبل ذلك بكثير([34]).
هل تجربة المدارس النظامية لاقت استحسان جميع علماء العصر؟ لا أظن ذلك
بدليل أن علماء ما وراء النهر أصابهم نوع من الذهول والحزن عندما علموا ببناء
المدارس ببغداد والتنظيمات التي استحدثها نظام الملك، فأقاموا مأتم العلم
وقالوا: «كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم
لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه
الأخسّاء وأرباب الكسل»([35]).
وردة الفعل هذه، والتي هي طبيعية في وسط علمائي تقليدي، تدل دلالة واضحة على أصالة
التجربة وعدم وجود سابقة لها، كما تدل أيضا على أن المدارس النظامية تجربة لم يسبق
نظام الملك إليها أحد.
لقد أنيط بهذه المدارس النظامية تعليم الفقه والحديث على المذهب
الشافعي وأيضا تخريج الفقهاء والمحدثين ورجال القضاء على نفس المذهب والعقائد
الأشعرية الكلامية، التي قام بصياغة موضوعاتها علماء كبار مثل أبي حامد الغزالي،
تعزيزا للتحالف بين السلطة السياسية وبين رجال الدين والعلماء. هذا التحالف
قاد الدولة والمجتمع في الحروب ضد الروم البيزنطيين والغزاة الآخرين إلى تحقيق
النصر وحماية الثغور.
والسؤال المطروح هنا، هل كان لهذا التحالف الرؤى الفكرية
والمشروع الحضاري لبناء الدولة الإسلامية في الظروف الجديدة والمواجهة مع
أوروبا الصليبية ؟ السؤال مهم والجواب عليه قد يخرجنا عن الإطار المرسوم لهذه المداخلة،
ولكن نكتفي فقط بذكر ما قاله ألب أرسلان وهو يحتضر: «إني أشرفت من تل عال،
فرأيت عسكري في أجمل حال، أين من له قدر مصارعتي، وقدرة معارضتي، وإني أصل بهذا
العسكر إلى أقصى الصين، فخرجت علي منيتي من الكمين».
وبدعم من نظام الملك، انتشرت بالعراق وخراسان عشرات المدارس النظامية،
حتى قيل: «إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة»، وكان ينشئ المدارس حتى في
الأماكن النائية وكان كلما وجد في بلدة عالما قد تبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف
عليها وقفا وجعل فيها دار كتب. وكان التلاميذ يتعلمون فيها مجانا، وللتلميذ الفقير
منحة يتقاضاها من ميزانية مخصصة لذلك. ومن أهم المدارس التي أنشأها نظام الملك،
نظامية بغداد.
II-8. نظامية بغداد
أنشأها الوزير نظام الملك في بغداد([36])، وانتهى
بناؤها([37]) في
عام 459 ﻫ، وفتحت للتدريس سنة 459 ﻫ/ 1066 م
وسط احتفال كبير([38]).
وقد انفق على بنائها مئتي ألف دينار([39]) وكتب
عليها اسمه وبنى حولها أسواقا تكون وقفاً عليها وابتاع طباعاً وحمامات ومخازن
ودكاكين أوقفها عليها([40]).
وبلغ من اهتمام الخليفة العباسي بها أنه كان يعين أساتذتها
بنفسه. وتعتبر هذه المدرسة بداية تنظيم التعليم على أسس وقواعد معلومة لا في
العالم الإسلامي وحسب، بل في العالم أجمع.
-II8 .(أ) أهدافها:
هدفت المدرسة النظامية منذ نشأتها الأولى زيادة على نشر المذهب السني
الشافعي، القضاء على آثار الأفكار الشيعية التي خلفها البويهيون إبان سيطرتهم على
مقدرات الخلافة العباسية. ومن ثم كان التعليم الديني استنادا إلى المذهب السني.
وكان نص الوقفية يؤكد على أن كل من يدرس بالمدرسة، ينتسب إليها أو يعمل بها يجب أن
يكون شافعيا أصلا وفرعا([41]):
فهم من جهة يريدون كسب ولاء الدولة العباسية التي اعتمدت عليهم لدعم نفوذها، ومن
جهة أخرى، وعلى المدى المتوسط والبعيد، محاصرة المد الشيعي وتقليص نفوذه.
لقد كان نظام الملك يرمي بدرجة كبيرة من وراء إنشاء المدارس النظامية إلى توجيه الرعية وجهة
تخدم مصلحة الدولة، وتبعث على الاستقرار والأمن، لذا كان هم نظام الملك التأكيد في
برامج الدراسة على إفهام الناس عامة ومنتسبي المدارس النظامية خاصة أصول الدين
الإسلامي الصحيحة، ولما كان نظام الملك سنيا شافعيا، كان يرى أن يدرس الفقه
والأصول المستمدة من أفكار وآراء الشافعية عن طريق مدرس شافعي الفرع والأصل([42]).
ويمكن إجمالاً تلخيص أهداف المدارس النظامية في النقاط التالية:
- نشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل على تقليص
نفوذه.
- إيجاد معلمين مؤهلين لتدريس المذهب السني الشافعي ونشره في الأقاليم المختلفة.
- إيجاد معلمين مؤهلين لتدريس المذهب السني الشافعي ونشره في الأقاليم المختلفة.
- إيجاد كوادر سنية ليشاركوا في تسيير إدارة دواوين الدولة
المختلفة،
وخاصة في مجال القضاء.
وخاصة في مجال القضاء.
وقد مكنت هذه المدارس من تخريج إطارات سنية رفيعة المستوى من المدرسين
والدعاة ساهمت في حماية ونشر المذهب السني الشافعي([43]).
-II8. (ب) طلبتها
كان عدد الطلاب في النظامية محدودا لأن الانتساب إليها كان مقتصرا على
الشافعية، ومن ثمة فهي تختلف عن المستنصرية التي كانت مفتوحة أمام الجميع سواء
كانوا من الحنفية، الشافعية، المالكية أو الحنابلة، فمن غير المعقول أن تكون عكس
ذلك سيما وأن صاحبها هو الخليفة. وقد تخرج من النظامية عدد من العلماء الذين نالوا
شهرة كبيرة نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ابن عساكر، والعز ابن عبد السلام،
وابن رافع الأسدي الذي درس بالنظامية ثم عين معيدا بها وأبو علي ابن منصور
الخطيبِي المعروف بالأجل الذي أصبح مدرساً بها هو الآخر.
-II8. (ج) أشهر علمائها
زاول التدريس بهذه المدرسة كبار العلماء والفقهاء نذكر منهم:
- أبو المعالي الجويني([44]):
يعرف بإمام الحرمين، وكان فقيها شافعيا وعالما متميزا في الفقه والأصول والأدب،
عمل في التدريس والتأليف في نيسابور وترك عددا من المؤلفات في أصول الفقه والفقه
وكانت له إجازة في التصوف من الحافظ أبي نعيم الأصفهاني. ولما عاد من الحجاز أقام
في نيسابور، حيث اشتغل بالتدريس في المدرسة النظامية التي أنشأها له الوزير
نظام الملك لتدريس المذهب السني. وظل الجويني يدرس بها، فذاع صيته بين العلماء،
وقصده الطلاب والدارسون من البلاد الأخرى. وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في
حياة الإمام: ففيها بلغ أوج نضجه العلمي وصنف الكثير من مؤلفاته.
- أبو حامد الغزالي: عالم كلام وفيلسوف وصوفي وفقيه شافعي تتلمذ
في نيسابور على الجويني، وكان له أبلغ الأثر في تكوين الغزالي. التقى الغزالي
الوزير نظام الملك الذي أكرمه وكلفه التدريس في نظّامية بغداد حيث بقي أربع سنوات
من 484 ﻫ إلى 488 ﻫ.
ويذكر أنهم أحصوا في مجلس درسه 300 تلميذ ثلثهم من أبناء
الأمراء والوزراء. وقد استحوذ على مجالس دروس العامة، حتى ذاع صيته واشتهر بين
علمائهم بلقب حجة الإسلام الغزالي وكان متمرسا في فن الجدل والكلام. وفي ذروة
النجاح هذه ألف جملة من كتبه المشهورة، مثل: "مقاصد
الفلاسفة" و"تهافت الفلاسفة" و"إحياء علوم الدين".
- أبو اسحق الشيرازي([45]): هو
أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي شيخ الشافعية. ولد بفيروز آباد في فارس سنة 393 ﻫ، وتعلم
بها، ثم انتقل منها إلى البصرة، ثم إلى بغداد سنة 415 ﻫ، وما زال
بها حتى انتهت إليه رئاسة مذهب الشافعية في زمانه، واشتغل مدرسا بالمدرسة النظامية ببغداد لمدة أربع سنوات، وكان أول من عين بالنظامية كمدرس. توفى ببغداد سنة 476 ﻫ. ومن أشهر مؤلفاته:
"المهذب في الفقه"،"التنبيه في الفقه"،
"اللُّمَع في أصول الفقه"،
"طبقات الفقهاء".
- مجد الدين أبو طاهر بن محمد الشيرازي الفيروز آبادي([46]):
المعيد بالمدرسة وصاحب "قاموس المحيط" والمتوفى
سنة 817 ﻫ/ 1414 م .
يضاف إلى هؤلاء عدد كبير من الأساتذة المرموقين في الفقه
الشافعي والنحو ومنهم أبو نصر الصباغ، وأبو القاسم الدبوسي، وأبو سعيد
النيسابوري، والسهروردي، وابن البرهان، وأبو يعقوب الهمداني، وابن الجوزي،
وأبو الحسن علي بن محمد الطبري، أبي بكر الشائي، أبو زكرياء الخطيب التبريزي وعلى
بن محمد الفضيحي. ومن المعيدين محمد السلماسي، وابن رافع الأسدي المعروف بابن شداد
وأبو الحسن علي بنعلي بن سعادة الفارقي.
وكان يميز علماء النظامية لباسا انفرد باللونين الأسود والأزرق([47])،
وكان مرتدي هذا اللباس يحظى بقدر كبير من الاحترام من عامة الناس([48]). وكان الأساتذة
يعينون بها نظير مرتبات تدفع لهم، وبذلك كانت النظامية أول مؤسسة تعليمية يتقاضى
أساتذتها أجرا مقابل التدريس. وكان لكل مدرس على الأقل مساعد، وإلى جانب أعضاء
هيئة التدريس كان يوجد عدد من الكتبة والخدم، فضلا عن أمين المكتبة ومسجل وإمام
لمصلى المدرسة.
وقد بلغت نفقات نظام الملك في كل سنة على المدارس والفقهاء والعلماء
ثلاثمائة ألف دينار، فلما راجعه السلطان ملكشاه في هذا الأمر، قال له الوزير: «قد
أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك في
حَمَلة دينه وحَفَظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار»([49]).
-II8. (د) نظام الدراسة
بها
كانت الدراسة تستمر أربع سنوات([50]) يدرس
فيها الطالب الفقه وأصوله، وبعض العلوم المساعدة، أما كيفية التدريس فيحدثنا عنها
ابن جبير عندما زار المدرسة سنة 580 ﻫ، وحضر درسا ووصف كيفية إلقاء
المحاضرة من طرف المدرس والأسئلة التي يوجهها الطلبة، قائلا: «وأول من شاهدنا مجلسه
منهم الشيخ الإمام رضى الدين القزويني رئيس الشافعية وفقيه النظامية والمشار إليه
بالتقديم في العلوم الأصولية.... وطبيعي أن المدرس كان يجلس على مكان عال وهو
متطيلس والطريقة المتبعة أن الطلاب يجلسون أمامه على شكل نصف حلقة، ويبدأ الطلاب
بالقراءة، وكانوا يقرؤون بتلاحين ونغمات محرجة مطربة»([51]).
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن التعليم لم يكن فقط في المدارس
بل كان منتشرا في الحلقات العلمية المختلفة وكان لكل فرع من المعرفة حلقته أو
حلقاته الخاصة.. ومن أبرز الحلقات كانت حلقة المتكلمين لما يجري فيها من مناظرات
ومحاورات بينهم وبين أصحاب الملل والنحل. وكان
يحضر كثيرون حلقات اللغويين والنحاة، ويقال أنه كان يحضر حلقة ابن الأعرابي الكوفي
زهاء مائة شخص، وكثيرا ما كانت تحتدم المناظرات بين الحاضرين. وكانت هناك حلقات
للفقهاء والمحدثين والمفسرين والنحويين والشعراء والقصاص وغيرهم. ولم يكن يشترط
لحضور هذه الحلقات أي شرط سوى التزام قواعد السماع وآداب الحوار والمناظرة.
وما يشد الانتباه هنا كثرة العلماء والمتخصصين في شتى صنوف المعرفة،
حتى ليروى أن النضر بن شميل، تلميذ الخليل بن أحمد، حين عزم على الخروج من البصرة
إلى خراسان ودعه نحو ثلاثة آلاف شخص بين محدث ولغوي ونحوي وأخباري. وإذا كانت
البصرة اشتملت على هذا العدد الوفير من العلماء فإنه ما من شك أن بغداد كانت تضم
أضعاف ذلك.
-II8. (ﻫ) دار كتبها أو
مكتبتها
ألحق بمبنى المدرسة النظامية بناء خاص بالمكتبة عرف باسم دار الكتب
أعطاها الوزير نظام الملك اهتماما خاصا، حيث زودها بكل غريب ونادر وقد كتب هو
بنفسه كتابا في الحديث أودعه عند زيارته الأولى لها رفقة ملك شاه
عام 479 ﻫ/ 1086 م، ودخل المدرسة النظامية وجلس في خزانة
الكتب وطالع فيها كتبا([52]). ولقد
كانت المدرسة ومكتبتها من الأشياء القليلة التي نجت من الخراب والدمار الذي تعرضت
له بغداد على يد المغول سنة 656 ﻫ/ 1258 ﻫ. ولقد
ضمت المكتبة أكثر من عشرة آلاف مجلد([53]) أغلبها
في الفقه والسنة واللغة والأدب وعلم الكلام.
وقد شغل منصب أمين المكتبة فيها علماء لهم شأنهم كان منهم أبو يوسف
الإسفراييني يعقوب بن سليمان بن داود، الذي كان فقيها، أديبا، شاعرا وخطاطا.
وعندما توفي جاء بعده الإبيوردي أبو مظفر محمد بن أحمد، وهو أديب مشهور كان كثير
التصانيف والتأليف يتمتع بشخصية قوية وله طموحات أوصلته إلى السلطان محمد بن
ملكشاه، ملك خراسان ليصبح واحدا من رجال الدولة. وكان من
بين أمناء المكتبة المشهورين أيضا الخطيب التبريزي أبو زكريا، يحيى بن علي بن محمد
الشيباني، وقد كان أديبا له العديد من الكتب المهمة وكان إلى جانب أمانة المكتبة
يدرس الأدب والفلسفة في المدرسة. وقد توفي عام 502 ﻫ/ 1109 م
وهو على رأس أمانة المكتبة. وقد كان أكرم الدين أبو سهيل آخر أمين لهذه المكتبة.
وفي سنة 510 ﻫ/ 1117 م. نشب حريق في المدرسة
وسرعان ما قام الطلاب بنقل كتب المكتبة حماية لها من النار التي التهمت مبنى
المكتبة مما استوجب إعادة تشييده وإعادة ترتيب الكتب فيه على رفوف جديدة.
ومع مرور الوقت أصاب المكتبة تصدع وإهمال مما جعل الخليفة العباسي الناصر لدين الله يأمر سنة 589 ﻫ/ 1193 م بإعادة أعمارها ونقل إليها ألوفا من الكتب والمجلدات النفيسة([54])، بل ويقال إنه بني لها مبنى جديدا.
ومع مرور الوقت أصاب المكتبة تصدع وإهمال مما جعل الخليفة العباسي الناصر لدين الله يأمر سنة 589 ﻫ/ 1193 م بإعادة أعمارها ونقل إليها ألوفا من الكتب والمجلدات النفيسة([54])، بل ويقال إنه بني لها مبنى جديدا.
وكانت المكتبات على ثلاثة أنواع، منها العامة: التي تعير الكتب لعامة
الناس وللفقراء والطلاب، والخاصة: التي كانت موجودة في بيوت الخلفاء والأمراء
والأغنياء، والمكتبات بين العامة والخاصة التي تعير الكتب لطبقة معينة من العلماء
والطلاب.
وقد كان العلماء في العصر السلجوقي يكتبون مؤلفاتهم باللغتين العربية
والفارسية، كون هاتين اللغتين آنذاك بمثابة اللغتين العالميين، وكانوا يتباهون
بأنهم يتقنون هذه اللغات وبارعين في كتابتها ولذلك كثرت المؤلفات بهاتين اللغتين
في العلوم المختلفة، مما جعل الدارسين يلمون بأطراف من مختلف العلوم والفنون في
عصرهم، ويحرصون على إظهار ذلك في كتاباتهم.
وراجت هذه الظاهرة عند العلماء والكتاب والشعراء([55]).
-II8. (و) أشهر طلابها
لقد انتسب إلى هذه المدرسة عدد كبير من الطلاب، نذكر منهم:
- علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي (571 ﻫ /1175 م): دخل
بغداد ولزم التفقه وسماع الدروس بالمدرسة النظامية ومن أشهر كتبه
"تاريخ دمشق"([56]).
- العماد الأصفهاني(571 ﻫ/ 1175 م): أبو عبد الله
محمد بن صفي الدين الكاتب تعلم بالنظامية على يد الشيخ ابن منصور سعيد مدرس
النظامية وسمع بها الحديث من أبي الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام وغيره من
أعلام المدرسين في النظامية([57])،
ومن أشهر كتبه: "خريدة القصر وجريدة العصر" و"الفيح في الفتح
القدسي"، وكانت له منزلة رفيعة عند السلطان نور الدين زنكي وصار صاحب سره وكان
من أبرز كتاب صلاح الدين الأيوبي وأصبح من جملة الصدور المعدودين والأماثل
المشهورين يضاهي الوزراء([58])،
توفي العماد بدمشق ودفن في مقابر الصوفية([59]).
- بهاء الدين بن شداد (ت. 632 ﻫ): تتلمذ على يد الشيخ
رضي الدين القزويني شيخ الشافعية ببغداد ومن ثم صار من رجالات السلطان صلاح الدين
الأيوبي وعينه السلطان قاضيا على حلب وتوفي بها، ومن كتبه سيرة صلاح الدين بن
أيوب، اشتغل معيدا بالمدرسة النظامية([60]).
وعلى العموم، فالذين درسوا في النظامية واشتهروا في حياتهم الثقافية
والسياسية والاجتماعية عددهم كبير.
- III عوامل نجاح تجربة
المدارس النظامية:
لقد أبدى الوزير نظام الملك اهتماماً كبيراً وبذل جهودا جبارة حتى
تحقق النظاميات الأهداف التي أنشئت من أجلها، فاختار الموقع الجغرافي اللائق
والمدرس المتميز وحدد المنهج العلمي الصارم، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات
المادية التي تساعد هذه المدارس على الاستمرار في أداء رسالتها العلمية بفاعلية ونجاح.
-III1. اختيار أحسن
الأماكن
من ناحية الموقع الذي بنيت فيه النظاميات يقول السبكي عن نظام
الملك: إنه بنى مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة
بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل. هذه إذن هي أمهات شبكة المدارس النظامية، ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أُنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى عاصمة
للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضا والثانية
كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه، وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية.
إن هذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع إنشاء المدارس على
النحو المذكور لم يأت عن طريق الصدفة، وإنما كان أمرا مقصودا ومدروسا حتى تقوم بدورها في مواجهة الفكر الشيعي في هذه المناطق، وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني.
III-2. اختيار الأساتذة
المتميزين
وإلى جانب الاختيار المدروس للمكان، فإنه تَمّ اختيار المدرسين بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، اللغة العربية والنحو، ويشير الأصفهاني إلى دقة نظام
الملك في هذه الناحية فيقول: «وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا
بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب
له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال
من العلم ليحلّي به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله».
وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين المدرس إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته،
وحدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور،
فلما مات أستاذه فيعام 478 ﻫ قصد مجلس نظام الملك، وكان مجمع أهل
العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاّه الصاحب نظام الملك بالتعظيم
والتبجيل وولاه التدريس بمدرسته ببغداد. وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت
الْخُجندي (ت. 496 ﻫ) الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأعجب به،
وعرف مستواه في الفقه والعلم، فحمله إلى أصفهان، وعينه مدرسا بمدرستها، كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي (ت. 483 ﻫ)، ليدرس بنظامية بغداد لأنه كان بارعا في
الفقه والجدل.
وفي بعض الأحيان كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولا فيبني له مدرسة باسمه، كما
كان الحال مع الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (ت. 476 ﻫ) الذي بنى له نظامية
بغداد، ومع إمام الحرمين الذي بنى له نظامية نيسابور([61]).
وكان نظام الملك يحيط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في
عام 475 ﻫ، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام
الملك، فأكرماه وأُجيب إلى جميع ما التمسه، وجرت بينه وبين إمام الحرمين مناظرة،
بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أوقف العميد عند حده، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة.
-III3. تحديد منهاج
الدراسة
حرص نظام الملك على تحدد منهج الدراسة في هذه المدارس، ويتضح ذلك مما ورد في وثيقة وقفية نظامية ببغداد من أنها: وقف على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا، وكذلك شرط
في المدرس الذي يكون بهاوالواعظ الذي يعظ بها وأيضا متولي الكتب.
وقد قامت المدارس النظامية التي كانت تخرج العلماء الذين يتبنون مذهب الدولة على التراث العلمي للأشاعرة([62]).
وكان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما: الفقه على المذهب الشافعي، وأصول
العقيدة على مذهب أبي الحسن الأشعري([63])،
وإلى جانب ذلك كانت تدرس بعض المواد كالحديث، والنحو، وعلمي اللغة والأدب، وفي مرحلة أخيرة أخذت العلوم الرياضية طريقها إلى المدرسة([64]).
ويشير ابن الجوزي إلى أن وقفية نظام الملك الخاصة بمدرسة بغداد نصت
على أن يكون في المدرسة نحوي يدرس العربية، وقام بتدريس الأدب في نظامية بغداد أبو زكريا التبريزي، شارح ديوان الحماسة (ت. 502ﻫ)، ثم خلفه في التدريس علي بن محمد الفصيحي([65]) (ت 516 ﻫ)،
ثم أصبح هذا الكرسي من نصيب العالم اللغوي المشهور أبو منصور
الجواليقي (ت. 540 ﻫ).
لقد كانت المدرسة الأشعرية السنية مؤهلة لمواجهة الشيعة فكريا،
وهم الذين تسلحوا بدراسة الفلسفات المختلفة واستخدموا الجدل في الدفاع عن عقائدهم، وأخذوا عن المعتزلة معظم أصولهم، فأصبحت تشكل لبنات مهمة في منهجهم
الكلامي، لقد كانت تضم الفئات القادرة على خوض غمار هذا الميدان الفكري، وهم الذين استوعبوا تراث أبي الحسن الأشعري، أي إن نظام الملك وُفّق تماما
في اختيار المنهج التعليمي الملائم لتحقيق الهدف الذي
سعى إليه.
ولم ينته المذهب الأشعري كما انتهت المدارس النظامية بوفاة نظام
الملك، بل تبناه وعمل على نشره الكثيرون كالمهدي بن تومرت، نور الدين محمود زنكي
والسلطان صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اعتماد جمهرة من العلماء عليه، وبخاصة
فقهاء الشافعية والمالكية المتأخرين. ولذلك انتشر المذهب في العالم الإسلامي كله،
ولا زال المذهب الأشعري سائدا في أكثر البلاد الإسلامية.
-III4. الدعم المادي
اللاّمحدود
لم يدخر نظام الملك جهداً في توفير الإمكانات المادية التي تساعد شبكة المدارس هذه على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها
الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعا
وأملاكا، وسوقا بُنيت على بابها، وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسطا من الوقف،
وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يوميا لكل واحد منهم، أما مدرسة
أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان لنظامية نيسابور أوقاف عظيمة، وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس.
ويفهم من بعض الروايات التاريخية أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به، إذ روي أن واحدا
من طلابها، ويُدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547 ﻫ وكانت له غرفة، فحضر
متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة، كما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، وأيضا تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث، حيث اجتهد في توفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مدرسة مكتبة
تضم أحسن المراجع، يتولى أمرها قوام على شؤونها.
وكان نظام الملك يتفقد هذه المدارس خاصة نظامية بغداد:
ففي المحرم من عام 480 ﻫ زار هذه المدرسة وجلس في خزانة كتبها، وقرأ
بها كتبا، ثم شارك في التدريس، فقرأ الفقهاء عليه شيئا من الحديث الشريف، وأملى عليهم بعضا
منه.
وكان من الطبيعي أن تؤدي كل هذه الجهود في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل
العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها، إلى رواج سوق العلم بها، فأقبل
عليها طلاب العلم والجاه حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد
سنة 488 ﻫ ثلاثمائة طالب كانوا يتفقهون على الإمام الغزالي، أما نظامية نيسابور
فكان يجلس بين يدي إمام الحرمين كل يوم نحو من 300 من الأئمة والطلبة.
ولم يقتصر في الواقع الإقبال على هذه المدارس النظامية الشافعية على
الطلاب فقط، بل شمل أيضا الكثير من الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس بها حتى وصل
الأمر بعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه، ومن هؤلاء: أبو
الفتح أحمد بن علي بن تركان المعروف بابن الحمامي (ت. 518 ﻫ) كان
حنبليا، فانتقل إلى المذهب الشافعي، وتفقه فيه على يد أبي بكر الشاشي والغزالي
فجعله أصحاب الشافعية مدرسا بالنظامية، وكان قد سبقه أبو المبارك الملقب بالوجيه
النحوي الحنفي، لما شغر كرسي تدريس النحو لم يجد حرجا من أجل الفوز بالكرسي أن
ينتقل إلى المذهب الشافعي، وبالفعل حازه([66]).
ويبدو أن انتقال الحنابلة أو الأحناف إلى المذهب الشافعي في هذه
الفترة كان امرأ كثير الحدوث بدرجة أزعجت أحد الأئمة الحنابلة وهو أبو الوفاء بن
عقيل (ت. 513 ﻫ) حيث ينقل عنه أبو الفرج بن الحوزي قوله: «أن أكثر أعمال
الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله، أي أن معظم الناس لا يبتغون بأعمالهم وجه
الله وإنما يحاولون التقرب بها إلى ذوي النفوذ والجاه طمعا في متاع الحياة
الدنيا». وقد وجد أبو الوفاء المثل على ذلك في انتقال الكثير من أصحاب المذاهب إلى
المذهب الشافعي بعدما عظم شأن هؤلاء عند الحكام، طمعا في المال والجاه.
-III5. الهيئة التدريسية ودقة
تنظيمها
تعدّ الهيئة التدريسية على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك لأن نجاح أي مدرسة مرهون بنجاح المدرسين وتفانيهم في أداء مهامهم. وهذه بعض الأمور المتعلقة بتنظيم الهيئة التدريسية:
-III5. (أ) طرق تعيين الأساتذة وفصلهم
كان اختيار الأساتذة للتعليم في النظاميات يجري وفق
تقاليد تشبه أرقى الجامعات الحديثة في وقتنا الحاضر، فقد كان نظام الملك
يختبر معلوماتهم خلال المناظرات التي كان يعقدها في المناسبات المختلفة، ويلقي عليهم أسئلة كان قد فكر وأعدها، فإذا لمس في أحدهم علما وذكاء وجّهه إلى المسلك الذي يريده، فالذين يكونون أهلا للتعليم عيّنهم أساتذة في الحال
وأسّس لهم مدرسة ومكتبة أو يوفدهم إلى ولاية سكانها أشد حاجة، وإذا صدر الأمر بالتعيين
التحق المدرس إلى الجهة التي اختير لها، فإذا كان إلى بغداد مثلا توجّه إلى دار الخلافة
من أجل الموافقة على التعيين، ثم يُخلع عليه طرحة زرقاء وأهبة سوداء، ويُحتفل به
في المدرسة المعين فيها، ويحضر درسه كبار رجال الدولة والأساتذة
والشعراء، وحين ينتهي تلقي الخطب والقصائد ترحيبا به وثناء عليه. وإذا ما أُريد فصل مدرس لسبب ما استدعي من قبل ممثل
نظام الملك، وغالبا ما كان أحد أولاده، وينزع منه اللباس الرسمي.
-III5. (ب) مراتب المدرسين
قد جرى العرف أنه إذا تم تعيين من تتوافر فيه شروط القدم والشهرة يبقى
في منصبه طوال حياته، فإذا ما تعذر ذلك لسبب من الأسباب كالوفاة مثلا يوصي بمن يخلفه من كبار
أبنائه أو المتفوقين من طلابه،غير أن المدارس النظامية خرجت على هذا التقليد نظرا
لخضوع هذه المدارس لحكم وإرادة مؤسسها، وقد يتناوب مدرسان على كرسي واحد خلافاً للمألوف.
- المدرس: هذه التسمية لا تطلق إلا على
المختص بتدريس الفقه، وإلقاء الدروس التي لا تتعلق في العادة سوى
بمواضيع فقهية، فإذا بلغ المدرس مرحلة عالية من الشهرة والتأليف صار أستاذا، وحاز على كرسي المادة .
- النائب: وهو المكلف بالقيام بتدريس
المادة نيابة عن المدرس إذا كان مشغولا بعمل إداري أو قضائي أو لمرض أو سد الشاغر في فترة لا يوجد فيها مدرس.
- المعيد: يختار المدرس من بين طلبته معيدين، وقد يكتفي
بواحد، ومهمته أن يلقي الدرس على الطلبة وأن يساعدهم في فهمه، ومن ثم كان من
بين هؤلاء المعيدين مدرسون في مكان آخر. والمعيد يمكن أن يترقى إلى مرتبة مدرس: فأبو الحسن الفارقي
كان معيدا بالنظامية ثم صار مدرسا([67]).
- مرتبة الصدر: وصاحب هذه المرتبة له الصدارة المطلقة في
المدرسة، والظاهر أن الصدر هو إمام العصر في الفقه أو الحديث أو التفسير أو في أي علم من العلوم أو هو علامة عصره، وعلى يديه تخرج الكثير من نوابغ المدرسين، وإليه يذهب الملوك والأمراء والوزراء والفضلاء لسماعه والإفادة منه، وليس من الضروري أن
يكون في كل مدرسة صدر، فهؤلاء قلة، ومن حسن حظ المدرسة وكمال شهرتها أن يزاول التدريس بها صدراً.
-III5. (ج) مراتب المتعلمين
لعل أولى درجات المتعلم أن يُطلق عليه اسم تلميذ أو طالب ثم بعد أن
يصل إلى المرحلة العالية في المعرفة يُقال له: مثقف ثم فقيه، فإذا أكمل
دراسة منهجه وبقي ملازما لأستاذه ليستكمل علومه يُسمى بالصاحب، وقد يعتمد عليه أستاذه فيعينه معيدا
وناسخا لمؤلفاته تحت إشرافه.
-III5. (د) الكتاب المدرسي
كان التأليف من الاعتبارات التي تراعى عند اختيار أساتذة المدارس النظامية، وكانت
الدرجات العلمية التي تمنح لهم أو يُعينون بها أو يرقون إليها إنما تعتمد على
هذا الأساس في الغالب، وكان الكتاب المدرسي الذي هو مجموعة محاضرات الأستاذ يمليها على طلبته أو يسمعوا إلقاءها منه أو يستنسخوها ويتبادلون النسخ المصحّحة
أو المجازة من قبل مؤلفها، ولا تمر فترة قصيرة حتى يتدارسها المعنيون. ويُطلق على
مجموعةتقريرات الأستاذ في الفقه اسم التعليقة، فيحفظها الطلبة ويتناقلونها، ومن
هذه التعليقات ما يبلغ بضعة مجلدات، وكلما كانت التعليقة أكثر أصالة كانت أكثر انتشارا وتدارسا من قبل
المعنيين.
وكان من عادات الأساتذة إذا أكملوا تأليف كتاب احتفلوا بذلك، ومما يروى
بهذا الشأن أن الإمام الجويني عندما أتم تصنيف كتابه الموسوم "نهاية المطلب في دراسة
المذهب" وكان قد درسه للخواص من تلاميذه، عقد مجلسا حضره الأئمة الكبار.
-III5. (ﻫ) القبول
والتخرج
ليس هناك سن محددة للقبول في هذه المدارس، فقد يدخلها الطالب وهو ابن الثلاثين أو أكثر، إلا أنه لا
يقل عن العشرين في العادة، إذ يكون قد قضاها في التعليم بين المسجد والكتاتيب، فإذا دخل
إحدى النظاميات، فليس هناك سن معينة تمنع من سماعها، فقد يحضرها وهو في سن الثمانين، وليس هناك وقت محدد للمادة التي يستغرقها الدرس أو عدد الدروس اليومية، فقد
يستمر ساعة أو ساعتين وهناك نص يمكننا الاستفادة منه في تحديد أقل مدة يصل فيها الطالب مرحلة الاعتماد على نفسه، والاستغناء عن الجلوس بين يدي
أستاذه، إذ ذكر ابن الجوزي في ثنايا ترجمته لأبي علي الفارقي أحد تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي أنها أربع سنوات.
-III5. (و) الإجازة أو
الشهادة
هي الوثيقة المدرسية، وكان الاستماع للمحاضرات من شروط الحصول عليها، لأنها لا تفي بالقصد من الدراسة والغرض من التعلم
إذا لم يصحبها حضور، وهذا ما علل به الماوردي عدم صحة حمل الإجازة والرواية بها فقال: «ولو
جازت لبطلت الرحلة»([68]).
وقد يُمنح الطالب عدة شهادات من شيوخ متعددين، والحصول عليها في العادة يكون بناء على طلب يتقدم به لمدرسه بعد أن ينهي دراسته، وقد أصبحت هذه الشهادة ضرورة بعد
تأسيس النظاميات.
وكان الجاري به العمل في المدرسة النظامية هو أن يتلقى الطالب العلم
زمنا طويلا فإذا وجد في نفسه القدرة على التصدي للعلم أعلن ذلك بين زملائه وشيوخه
فتعقد له حلقة من العلماء لمناقشته وإجازته، وهو ما يشبه مناقشة أطروحة الماجستير
أو الدكتوراه في وقتنا الحاضر.
-III5. (ي) التوظيف وفرص
العمل
بعد نجاح الطالب وحصوله على الإجازة يصبح مهيأ لأن يشغل القضاء أو
الإفتاء أو التدريس أو المناظرة، وقد يحظى بأكثر من واحدة منها فيكون قاضياً ومفتياً ومدرساً
في آن واحد، أو أن يكون حراً، فيعمل ليكون محدثا أو متكلما أو واعظا أو خطيبا في أحد المساجد. ومن الطلبة الذين أصبحوا مدرسين بالنظامية الطالب علاء
الدين أرسلان الذي قدم بغداد وسكن بداخلية النظامية ودرس الفقه ورتب معيدا بها ثم
عين مدرسا للنحو. والملاحظ في هذا العصر كثرة العلماء والعلماء المتخصصين، حتى
ليروى أن النضر بن شميل، تلميذ الخليل بن أحمد، حين عزم على الخروج من البصرة إلى
خراسان كان في توديعه نحو ثلاثة آلاف شخص بين محدث ولغوي ونحوي وأخباري. وإذا كانت
البصرة قد اشتملت على هذا العدد الوفير من العلماء فإن بغداد كانت تضم أضعاف ذلك([69]).
وقد كانت المدارس التي أُسست في ذلك الوقت مدارس أحادية المذهب تفردت بتدريس مذهب واحد، ذلك لأن
التنافس المذهبي الذي كانت تعيشه بغداد حاضرة الخلافة قد امتد إلى بلاد ما وراء النهر. وهذا هو الرحالة
ابن جبير يكتب لنا في رحلته: «أنه رأى ببغداد نحوا من ثلاثين
مدرسة»، ويضيف: «إنه ما فيها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها،
وأعظمها وأشهرها النظامية التي بناها نظام الملك، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة،
وعقارات واسعة للإنفاق على الفقهاء والمدرسين بها، وللإجراء على الطلبة»([70]).
وزالت هذه المدرسة نتيجة إهمال من تولى أمرها واستحوذ البعض منهم على
أوقافها كما كانت لحوادث الحريق والغرق الأثر الفاعل في ضعف جوانب هذه المدرسة
وبخاصة أيام ضعف الخلافة العباسية ودخول المغول بغداد وبمرور الأيام وتوالي
الأعوام اندرست آثارها وطمست أخبارها وانمحى ذلك المكان الذي كان يشع بأنوار العلم
والمعرفة وكان ينبوعا من ينابيع الثقافة التي كانت في خدمة المجتمع الإنساني.
- IV تقييم تجربة المدارس
النظامية
إن أبرز ما ميز الحياة العامة في عصر الوزير السلجوقي نظام الملك هو
ذلك الاهتمام بالجانب الثقافي وما بلغته العلم والمعرفة من تطور كبير وما طرأ على
التعليم من تجديد وتطور وازدهار. وإنشاء المدارس النظامية كان من المنجزات العظيمة
وأبرز مظاهر ذلك التجديد. وقد حققت هذه المدارس الأهداف العلمية والتربوية التي
أقيمت من أجلها.
كيف ذلك؟
لقد أدت هذه المدارس رسالتها بنجاح بتخريج جمهرة من العلماء وإن كانت
على المذهب السني الشافعي، وزودت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحا من الزمن وبخاصة دوائر
القضاء والحسبة والاستفتاء، وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر
هؤلاء في العالم الإسلامي حتى بلغوا المغرب الإسلامي، ودعموا الوجود السني هناك.
لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي
رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيرا من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى
ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والإفتاء، أو يتولوا بعض
الوظائف الإدارية المهمة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي، أول مدرس بنظامية بغداد، قوله:
«خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها
تلميذي أو من أصحابي».
وقد أسهمت هذه المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضا تقلّص نفوذ الفكر الشيعي خاصة بعد أن خرجت المؤلفات
المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي على قمة المفكرين الذين هاجموا الشيعة الباطنية الإسماعيلية، فقد ألف كتبا عدة، أشهرها فضائح الباطنية الذي
كلف بتأليفه عام 487 ﻫ من قبل الخليفة المستظهر.
هذا وقد نجحت المدارس النظامية في نشر مذهب الإمام الشافعي، ودخل
مناطق جديدة في العراق وفي المشرق الإسلامي، وقد صارت النظاميات مدعاة لبناء المدارس ومثارا للتنافس بقدر ما أصبحت نموذجا يحتذي به، وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة
التي من أجلها أنشئت النظاميات، وتتمثل في العمل على سيادة
الإسلام الصحيح، خاصة في المناطق التي كانت موطنا لنفوذ الشيعة، كالشام ومصر وغيرها.
لقد اهتم الرجل بالجانب المادي لهذه المدارس، وتحصل على دعم
مادي كبير من ألب أرسلان وملكشاه، وعمل أوقافا لهذه المدارس، التي نشرت في
أرجاء الدولة السلجوقية، كما اهتم بمشاهير العلماء وتواصل معهم، وأتى بهم
إلى مجلسه، وكان يختبرهم بالأسئلة وينظر للأجوبة، ومن أعجبه ذكاؤه
وقدرته على فهم المسائل العلمية ورأى فيه حيوية
ونشاطا وانتصارا لعقيدة الإسلام الصحيحة، أخذه وعينه في هذه المدارس، وخصص
له أوقافاً هائلة بحيث لا تجعل هذا العالم يحتاج لأي من أمور الدنيا، وإنما
يتفرغ للعلم والعطاء والبذل. وهذه من الأمور التي جعلت منظومتنا التعليمية الحالية
ضعيفة المستوى وضحلة الإنتاج وعاجزة عن المساهمة في تطور المجتمعات ورقيها.
ومن هؤلاء العلماء الذين تواصل معهم نظام الملك إمام الحرمين
الجويني صاحب كتاب الغياثي الشهير، وأبو إسحاق الشيرازي العالم الأصولي
والفقيه الشافعي، وكذلك الإمام الغزالي. تبقى فكرة مدارس النظامية
هي كانت تبنى للمشروع الفكري والمشروع العقائدي لأهل السنة من
الشافعية، وهي أيضا تلبية لحاجة الأمة وحاجة الدولة في تلك
المرحلة، لأنها كانت أمام مشاريع غازية فكرية وعقائدية وسياسية
وعسكرية، فكان السلاجقة نجحوا في الجانب العسكري والسياسي والتنظيمي
والإداري، لكنهم يحتاجون لإزكاء عقيدتهم وإحيائها من خلال العلماء والمحاضر
الفكرية والثقافية، وتلك الفكرة كانت فكرة نظام الملك.
لقد أعد نظام الملك لمدارسه مناهج متطورة، بالنسبة لذلك
العصر، تعد العلماء وطلاب العلم
إعدادا عقائديا، فقهيا وأصوليا من نوع خاص، وركزت
المدارس في تلك المرحلة على الجانب القضائي، وجانب الإفتاء
والتدريس، وجانب الإرشاد والتصدي للشبهات والبدع .
وعموما، خلفت هذه المدارس نتائج من الأهمية بمكان، إذ مكنت من تخريج
عدد من العلماء والدعاة من الطراز الرفيع، وأسفرت بالتالي عن انتصار واضح للمذهب
السني، ممثلا في المدرسة الأشعرية التي دعمها الإمام الغزالي بالمنطق والآراء
الفلسفية([71]).
وبهذه الإنجازات سجل الوزير نظام الملك اسمه في التاريخ السياسي
والعلمي الإسلامي بحروف من ذهب.
V - نهاية الوزير نظام الملك
كان الوزير بعد ما تقدم به العمر يستعين بأبنائه وأقاربه في إدارة
أقاليم الدولة، وكان لهؤلاء نفوذ كبير في الدولة؛ استمداداً من نفوذ نظام الملك
نفسه، وكان بعضهم يسيء استخدام السلطة ويستغل نفوذه في مآربه الخاصة، وهو ما أعطى
الفرصة لمعارضي الوزير أن يفسدوا العلاقة بينه وبين السلطان ملكشاه، ونجحت مساعيهم
في ذلك، حتى همّ السلطان بعزله، لكنه لم يجرؤ على تنفيذ هذا الأمر، فبعث إليه برسالة
تحمل تهديده ووعيده، فما كان من الوزير إلا أن قال لمن حملوا له رسالة السلطان:
«قولوا للسلطان: إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا
الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حينما قُتل أبوه، فقمت بتدبير أمره وقمعت
الخوارج عليه من أهله وغيرهم»([72]).
ثم لم يلبث أن قُتل الوزير في أصفهان في 10 من
رمضان 485 ﻫ/ 14 من أكتوبر 1092 م على يد أحد أتباع
الفرقة المعروفة بالحشاشين، الذي تقدم للوزير وهو في ركب السلطان في صورة سائل،
فلما اقترب منه أخرج سكينا كان يخفيها وطعنه طعنات قاتلة. ورغم الإمساك بقاتله إلا
أنه قال، كما يروي بعض خدامه: «لا تقتلوا قاتلي فإني قد عفوت عنه وتشهد
ومات». وخلفه في الوزارة أحد خصومه وهو تاج الدين الشيرازي، الذي على ما يبدو لم يكن
خير خلف لخير سلف.
وبعد وفاته بخمسة وثلاثين يوما توفي السلطان ملكشاه،
في 15 من شوال 485 ﻫ/ 18 من
نوفمبر 1092 م لتنطوي صفحة من أكثر صفحات التاريخ السلجوقي تألقا
وازدهارا.
لقد كان الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك من أشهر
الوزراء في التاريخ الإسلامي، وقد عاش سبعاً وسبعين عاماً. لقد كانت أمور الدولة
كلها تحت نظره، وعلى يديه تمت إنجازات وأعمال عُزِيَت إليها شهرة السلاجقة
وتقدمهم، سواء في عهد نظام الملك أم بعده.
وباغتيال الوزير نظام الملك وموت ملكشاه المتزامن انقضى العصر الذهبي
للدولة السلجوقية، ليبدأ عصر الانقسامات السياسية والصراع على السلطة بين ورثة
العرش، مما أدى إلى تشتيت صفوفهم وإضعاف سلطانهم وزوال دولتهم نهائيا
عام 619 ﻫ، بعد أن حكم منهم 31 سلطانا سلجوقيا قدموا للخلافة
أجل الخدمات وحموها من الكثير من عثرات السقوط.
- استنتاج
إن الأمة الإسلامية قادرة دوما بما تملكه من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات. ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها- بحكام يشلون حركتها، يخضعون أمام أعدائها، ويبددون طاقتها حفاظا على أنفسهم ومصالحهم. لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ولو أن هذه الأمة تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاهاالإسلام، لكان في الإمكان حدوث منعطفات كثيرة توصل للرقي والازدهار.
لقد كانت المدارس النظامية واحدة من هذه المنعطفات، إذ اعتبرت
بحق تجربة رائدة ومن ثمة فهي تصنف إلى مستوى مدارس عليا جامعية ساهمت في تخرج
الكثير من رجال الفقه، الفكر والعلم، واتسمت بتطور ظاهر في دراسة علوم القرآن
الكريم، علم الحديث، الفقه، اللغة وآدابها وعلم الكلام، الذي نما خلال هذه الفترة
وبشكل ملحوظ.
ورغم ما يمكن أن يقال حول هذه التجربة إلا أنه يبقى لصاحبها الفضل في
الاهتمام بها اهتماماً لم يسبقه إليه أحدا قبله وربما بعده، فضلاً عما بذله من جهد
كبير لتأسيس ونشر التعليم النظامي في أهم ولايات الدولة السلجوقية الإسلامية
آنذاك، على الرغم من هدفه الواضح وهو خدمة المذهب الشافعي على حساب بقية المذاهب الأخرى.
وعلى الرغم من ذلك ساهمت هذه التجربة في خلق تنافس حاد بين أمراء
المسلمين ووزرائهم شرقاً وغرباً على إقامة المدارس إما طلباً للشهرة، أو حبا للعلم
أو رغبة في نشر التعليم .
وبنهاية نظام الملك الأليمة كانت نهاية أخرى أكثر ألَماً تنزل
بالمدارس النظامية، حيث توقف العمل بها تماماً، بل أن بعضها مثل نظامية بغداد
اختفت في ظروف غامضة، وأصبحت أثراً بعد عين.
([1]) في تركستان نشأت هذه الأسرة. ولظروف ما هاجرت بقيادة كبيرها سلجوق الذي تنسب الأسرة إليه وبين خراسان وبخارى وأصبهان، تراوحت إقامتها حتى استقرت بمرو حيث هاجمها السلطان =
= الغزنوي مسعود ولكنه هزم أمامها. وأصبحت الخطبة تلقى بمرو باسم داود السلجوقي نجل سلجوق الكبير، وكان هذا في سنة 433 ﻫ .ومن مرو انتشر سلطان السلاجقة إلى الري وإلى خوارزم، وبدأ تاريخهم يظهر كقوة لها كيانها المستقل في العالم الإسلامي خلال القرن الخامس للهجرة، (عبد الحليم عويس، دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، ص. 39، متوفر على الموقع: www.al-eman.com وأيضاً فلاديمير بارتولد، تاريخ الترك في آسيا الوسطى، ترجمة أحمد السعيد سليمان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1958 م، ص. 493).
([2]) العصر العباسى الرابع، عصر نفوذ السلجوقية
(447-656 ﻫ/ 1055-1258 م)، متوفر على الموقع: http://www.naabd.com/dros/index.php?book=6&id=48
([3]) نقلا عن السيد سهيل الحسيني: الخواجة نصير الدين
الطوسي، مقاربة في شخصيته وفكره، متوفر على الموقع: http://www.shurouk.org/forum/showthread.php?
عضد الدولة ألب؛ جلال الدولة ملك شاه؛ ناصر الدنيا والدين محمود؛
تتش بن ألب أرسلان؛ ركن الدين بركياروق؛ غياث الدنيا والدين محمد؛ جلال الدين
ملكشاه بن بركياروق؛ غياث الدنيا والدين محمد؛ محمود بن محمد بن ملكشاه؛ داود بن
محمود؛ مسعود بن محمد بن ملكشاه؛ معز الدين أحمد سنجر.
([5]) عبد الهادي محبوبة رضا محبوبة، نظام الملك الطوسي 408-485 ﻫ،
الدار المصرية اللبنانية، ط. 1، 1419 ﻫ/ 1999 م،
هامش 1، ص. 216.
([6]) وقعت في ذي القعدة 463 ﻫ/
أغسطس 1071 م، وأسر القيصر، الذي لم بتخلص من أسره إلا بعد دفع فدية
كبيرة قدرها مليون ونصف دينار، كما تم عقد صلح مع السلاجقة مدته خمسون عاماً اعترفوا
من خلاله بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلاد الروم.
([7]) لقد وسع آفاق دولة إيران توسعه لم يُرَ لها في إيران نظير في
الألف والثلاثمائة سنة من تاريخ الإسلام، وأنه لم يكن كاشغر، وأوزجند، وبلاساغون،
وما وراء النهر، وخورازم، وخراسان، وسجستان، وكرمان، وفارس، وعراق العجم، وعراق
العرب ومازندان وآذربيجان وأرمينية وآران والشام وبيت المقدس وأنطاكية، من يتأخر
في تنفيذ أوامره وتطبيقها قيد أنملة. لقد كان السلطانان المذكوران، وقد كانا من
أعظم سلاطين السلاجقة، يطيعان آراءه ويُقرّان تصرفاته... (نقلا عن عبد القادر
الإدريسي، الخواجة نظام الملك، "العلم المغربية"،
الأربعاء 2 مارس 2005).
http://www.qadeem.com/vb/showthread.php?t=11191
([19]) لمزيد من التفاصيل، أنظر: نظام الملك الطوسي، سياست نامه ( سير الملوك)، ترجمه عن الفارسية يوسف بكار، دار القدس، بيروت ، ط. 1، د.س.ط.
([24]) عليان عبد الفتاح الجالودي، «قواعد الحكم في سلطنة آل سلجوق من
خلال كتاب سياسات نامة» للوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي،
"المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد الخامس،
العدد 1، 1430 ﻫ/ 2009 م، ص. 217.
([28]) علي الصلابي، المدارس النظامية في عهد السلاجقة:
أهمية الفكر في مواجهة المد الباطني، متوفر على الموقع: http://forums.naseej.com
([33]) حسين أمين، «المدارس الإسلامية في العصر العباسي وأثرها في
تطور التعليم»، المؤرخ العربي، عدد
6-7، 1978، منشورات اتحاد المؤرخين العرب، بغداد، ص. 6.
6-7، 1978، منشورات اتحاد المؤرخين العرب، بغداد، ص. 6.
([34]) والجدير بالذكر أن المدارس كانت قد ظهر في دمشق
قبل ظهورها في بغداد؛ فقد تم إنشاء أول مدرسة فيها عام 391 ﻫ، وهذه المدرسة هي المدرسة الصادرية
المنسوبة إلى منشئها، صادر بن عبد الله، وتبعه بعد ذلك مقرئ دمشق (رشأ بن نضيف)، إذ قام بتأسيس
المدرسة الرشائية في حدودالأربعمائة للهجرة، وإلى هذه المدارس خرج الطلبة من
الحلق التي كانت تُعقد في المسجد إلى مكان يختص بتلقي علم معين، فيوقف عليهم وعلى شيوخهم المال وتُوفّر
لهم أسباب التعليم (المرجع: الصلابي، المدارس النظامية في عهد السلاجقة، الثلاثاء 2 ذو الحجة /1428 الموافق 11 ديسمبر2007).
([37]) ولقد اتخذت المدرسة في بنائها شكلا رباعي الأضلاع، وهي على
قاعات لها قباب، تحيط بصحن في وسطها، وفي الجانب المواجه لمكة المكرمة يوجد
المصلى، وبه المنبر، وفي الأروقة الملحقة بالمبنى كانت توجد أماكن لنوم الدارسين.
كما ألحق بها أيضا دورات مياه ومطبخ ومخازن، وحجرات الدراسة تحيط بصحن المدرسة
وألحق بالمدرسة مكتبة.
([38]) حسين أمين، بغداد تاريخ وحضارة، المجمع العلمي العراقي،
كتاب في حلقات، الحلقة الثالثة، المدارس التراثية ببغداد: المدرسة
النظامية، الموروث، عدد 6، غشت 2008؛ نقلا عن ابن
الجوزي، المنتظم،
ج 8، ص. 245.
ج 8، ص. 245.
([44]) أبو المعالي عبد الملك الجويني، الملقب بإمام الحرمين، (18 محرم 419 ﻫ/ 12 فبراير 1028 م-) فقيه عالم فارسي. ولد الجويني في بيت عرف بالعلم والتدين؛ فقد كان أبوه
"عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن حيوه" واحداً من علماء نيسابور المعروفين، وأحد فقهاء المذهب الشافعي،وله مؤلفات كثيرة في التفسير والفقه
والعقائد والعبادات، وقد اشتهر بحبه الشديد للعلم، كما عُرف بالصلاح والورع، ومن
ثم فقد حرص على تنشئة ابنه "عبد الملك" تنشئة إسلامية صحيحة، في جو من
العلم والأدب والثقافة الإسلامية. ومؤلفات الجويني هي: الإرشاد إلى قواطع
الأدلة في أصول الاعتقاد؛ البرهان في أصول الفقه؛ الرسالة النظامية (أو
العقيدة النظامية)؛ الشامل في أصول الدين؛ غياث الأمم في التياث
الظلم. ومعناه: منقذ الأمم من الوقوع في الظُلَم؛ لمع الأدلة في قواعد عقائد
أهل السنة والجماعة؛ الورقات في أصول الفقه. وبعد رحلة حياة حافلة بالعلم
والعطاء، أصيب الجويني بعلة شديدة، فلما أحس بوطأة المرض عليه انتقل إلى
"بشتنقان" للاستشفاء بجوها المعتدل، ولكن اشتد عليه المرض فمات بها،
وذلك في مساء الأربعاء (25 ربيع الآخر 478 ﻫ/ 20 أغسطس 1185 م) عن عمر
بلغ تسعا وخمسين عاماً.
([46]) ولد بكازرون وهي بلدة بفارس سنة729 ﻫ. تفقه ببلاده وسمع بها، من محمد بن يوسف الزرندي المدني، ونظر
في اللغة إلى أن مهر وفاق، واشتهر اسمه وهو شاب في الآفاق، وطلب الحديث، وسمع من
الشيوخ منهم: الحافظ الإمام الواحد المتكلم الحجة ابن القيم، تلميذ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني، وسمع بدمشق الشام من الشيخ تقي الدين السبكي الكبير، وولده أبي
النصر تاج الدين السبكي الصغير، وابن نباتة، وابن جماعة وغيرهم؛ وجال في البلاد الشمالية والشرقية،
ولقي جماعة من الفضلاء، وأخذ عنهم وأخذوا عنه، وظهرت فضائله، وكتب الناس تصانيفه،
ودخل الهند ثم زبيد، فتلقاه ملكها الأشرف إسماعيل بالقبول، وقرره في قضائها، وبالغ
في إكرامه، ولم يدخل بلدة إلا وكرمه متوليها؛ وكان معظما عند الملوك، أعطاه تيمورلنك خمسة آلاف دينار؛
ودخل الروم فأكرمه ملكها ابن عثمان، وحصل له مال جزيل، ومع ذلك فإنه كان قليل
المال لسعة نفقاته، وكان يدفعه إلى من يمحقه بالإسراف، ولا يسافر إلا وصحبته عدة
أجمال من الكتب، يخرج أكثرها في منزل ينظر إليه، ويعيده إذا رحل، وكان إذا أملق
باعها! وكان سريع الحفظ.
تلقى الفيروز أبادي علومه عن علماء عصره كما أخذ عنه علماء كابن حجر والصلاح
الصفوي وابن عقيل والجمال
الأسنوي مما هيأ له أسباب
الشهرة. أقبل على التصنيف في علوم مختلفة كاللغة والتفسير والحديث والتاريخ والفقه. مات في زبيد سنة817 ﻫ وقد ناهز التسعين.
تعليقات
إرسال تعليق